آخر تحديث :السبت - 20 أبريل 2024 - 02:28 م

ثقافة وأدب


سيرة أديب من أبين

الأحد - 19 مارس 2017 - 12:51 م بتوقيت عدن

سيرة أديب من أبين

لا أعلم متى استطعت الحصول على بطاقة شخصية ولا أعلم أين هي الان ؟ والشيء الذي أدركه تماماً أنني أضعتها ثم وجدتها مع أحد المسحوقين .!
صورتي كانت بشعة للغاية كغيري من المواطنين، لا أعلم كم عدد اللعنات التي حظي بها ذلك المصور المسؤول عن التقاط صور لوجوه المواطنين البائسة، والملامح التي تحاول أن تكون جميلة لتبدو الصورة رائعة في البطاقة الشخصية في الخدمة المدنية، ولكني أدرك أنها كثيرة بقدر بشاعة صورتي.

- أنا أديب من أبين أعلق اسم محافظتي على كل " جاكيت " أرتديه .. اخذ اسمها أين ما أذهب كي لا أشعر بالفراغ .!
أصدرتُ مجموعة قصصية ( شتلات الليمون ) باكورة لأعمال قادمة بإذن الله؛ لنؤكد للجميع أن أبين مكاناً للإبداع في زمن الحرب، وأن التميز لا زال له مكاناً في حياتنا لنبني لها مكاناً مرموقاً يليق بها بين الأمم؛ لكن للأسف وجدنا التجاهل واللامبالاة، فالناس هنا يموتون بهدوء وبدون إزعاج .!!

- أنا أديب من أبين لا أدّعي حبها، لكنني أحزن كثيراً حين أرى منازل مدمرة لم تبنى من الحرب الأخيرة الغاشمة، أحزن حين أسمع شكاوى الناس البائسة، وأرى عدد الأيادي التي تكسر العفة بعصا الحاجة، راجية عطاء مادياً من الناس قد يقوم بتوفير الوجبة التالية .. كان حال الشحاتين في السابق أفضل بكثير من الآن، ولكن شحاتي اليوم بؤساء جداً ووجوههم غير مألوفة تظهر على ملامح البعض مدى قهرهم من الوضع الذي أجبرهم على التسكع في الشوارع ومد أيديهم بالحاجة إلى الناس.
أحزن عندما أرى المنازل بنوافذ تجردت من زجاجها كحل أخير لتلافي ضغط الانفجار بعد كل قذيفة عشوائية تسقط على أبين، أحزن عندما يعم الصمت المزعج في الشوارع بعد كل ليلة دامية وانفجارات تهز قلوبنا ليس خوفاً إنما حزناً على من سيختاره الموت ويغرز رأسه تحت الأرض، أحزن عندما أرى اتساع المقابر وازدحام الذاكرة بذكريات من فقدناهم وامتلاء الحديث بكلمات العزاء.

- أنا أديب من أبين أشعر بالأسى حين أرى الناس الكاذبة وأيادي اللصوص الممدودة بذريعة شحت السلام بالرغم من استطاعتهم أن يخرجوه من جيوبهم، يبحثون عن الانتصار في بحار الدماء ويجدفون بأرواح الأبرياء لكنهم يغرقون جميعاً في الحقد، يبحثون عن الأمن ولا يجدون إلا جثث أقربائهم المترامية في أيام الحرب والمدفونة في الذاكرة.. يا هؤلاء.. عمي غادر الحياة دون أن يرى معاشه، وظل يصارع المرض بجسد مرهق وعينين غائرتين تفكر بغذاء أولاده قبل دواء جسده .! ابن عمي شاب - على أعتاب الثلاثين من عمره - أوشكت ثمار آماله على النضوج، وبدا حلم عش الزوجية يرنو أمامه فلا تفصله عنه غير أيام ليحيل العنف والقهر زواجه إلى مأتم، ولتخلع فتاة أحلامه ثوب زفافها الموعود، وتلبس ثياب الثكالى قبل أوانها .!
يا هؤلاء .. تمزقت أحلام مئات من الأطفال والأرامل، وانهمرت سيول من الدماء والدموع ؛ لتروي أرض قاحلة فتنمو هموم لا عد لها ولا حصر، وأنتم تتبادلون الحقد بكل كرم .!!

- أنا أديب من أبين لم أزر أقربائي منذ أعوام كثيرة فقد منعتني الحرب من السفر إليهم، فهم بقربي وفي مدينتي التي اختفت رائحة الخبز منها وانتشرت رائحة الموت، توقفت الأمطار بها وأصبحت السماء لا تهطل إلا بالرصاص، أتوق لرؤيتهم لكن ليس بيدي إلا انتظار خبر وفاتهم، أتصفح الأخبار وأكتبها وأحصي عدد القتلى وأكتب جُمل الموت وأسماء الضحايا وأدرك أنني يوماً سأكون منهم.

- أنا أديب من أبين يموت دائماً حين يذهب ليلتقط صور المجازر، يصل إلى مواقعها ثم يصمت ويبتلع حرقته وقهره ويصور المشاهد بعينه ثم يؤرشفها في ذاكرته، يحفظها جيداً في قلبه، يحزن كثيراً في نفسه، ينتزع روحه بيده، ثم ينام بهدوء بجوار الضحايا الضائعة نصف أجسادهم .. وأبقى وحيداً هناك تحت الحزن لا شيء يستطيع انتشالي، أغمض عيني كأنهما راحتا ضريبة لشظية، وحين أرغب بالعودة إلى المنزل، أعود مبتور القدمين كأن صاروخاً أصابني بالشلل.

- أنا أديب من أبين لا استغرب أبداً حين يعلو صوت انفجار عنيف .. قد يكون شاب موعوداً بالحور العين كما قيل له، وقد يكون زواج لطفل من أطفال المقاولة .! في أبين اشتبكت الأفراح بالأحزان فلا نفرق بين هذه وتلك، ومع كل هذا نحن مستبشرون بمحافظنا الجديد ونتمنى من الله أن يربط على قلبه؛ ليعمر أبين وينتشلها بعد ظلام دامس ونقول له بالفم المليان نحن معك، وسننقش صمودنا وعزتنا وشجاعتنا في أنصع صفحات التاريخ، وسنجدف بأرواحنا وسط الدمار والخراب قاصدين طريقاً للإنتصار.