آخر تحديث :الخميس - 18 أبريل 2024 - 02:18 م

ثقافة وأدب


أدباء عدن أنموذجا : علي باذيب ، عبدالله باوزير ، أحمد محفوظ عمر.. دور السرد القصصي في مقاومة الاستعمار

الأربعاء - 29 نوفمبر 2017 - 11:21 م بتوقيت عدن

أدباء عدن أنموذجا : علي باذيب ، عبدالله باوزير ، أحمد محفوظ عمر.. دور السرد القصصي في مقاومة الاستعمار

أ.د. مسعود عمشوش

في البدء كانت الكلمة وقبل الفعل المقاوم وقبل الرصاصة كان للكلمة دورٌ متميّزٌ في مقاومة الاستعمار البريطاني وأعوانه ومن يستطيع أن ينكر دور الأغنية والقصيدة الشعبية في التحريض الثوري وإلهاب حماس الجماهير؟ ومن المعلوم أيضا أن الأدب الملتزم، وأدب المقاومة بشكل خاص، لاسيما شعر المقاومة، قد حظي باهتمام دارسي الأدب والأساتذة في كثير من الجامعات. وإذا كان هناك من كرس بعض الدراسات لدور الشعر الشعبي في قيام الثورة اليمنية، فحسب علمي، لم يُقْدِم باحثٌ - حتى اليوم - على دراسة دور الأجناس السردية في الإسهام الفاعل في الثورة اليمنية في الجنوب والشمال. ومن هنا جاء اختياري لموضوع هذه الورقة البحثية المتواضعة التي كرستها لدراسة دور السرد القصصي في مقاومة الاستعمار البريطاني، وإرغامه على الرحيل من الجنوب في الثلاثين من نوفمبر من عام 1967، وذلك من خلال قراءة لخمس مجموعات قصصية كـُتِبت جميعها في عهد الاستعمار البريطاني، أي قبل الاستقلال، وهي:
مجموعة (ممنوع الدخول) للأديب علي عبد الزراق باذيب،
مجموعة (الإنذار الممزق) مجموعة (الناب الأزرق) للقاص أحمد محفوظ عمر، مجموعة (الرمال الذهبية) ومجموعة (ثورة البركان) للقاص عبد الله سالم باوزير.
وفي نهاية الورقة سنحاول تقييم مدى نجاح هؤلاء الأدباء في التوفيق بين خطاب المقاومة التحريضي وبين المتطلبات الفنية لجنس القصة القصيرة.

أولا: مقاومة الاستعمار في قصص علي عبد الرزاق باذيب القصيرة:
يُعد علي عبد الرزاق سياسي وصحفي في المقام الأول؛ ففي الخمسينيات من القرن الماضي كتب في عدد من الصحف وتولى سكرتارية أكثر من صحيفة، وعُيّن مديراً لتحرير صحيفة (البعث)، ثم صحيفة (الجنوب العربي) وصحيفة (النهضة). وكتب أيضا في صحيفة (الطليعة) التي صدرت في تعز عام 1959. وقد غلبت الروح الثورية على جميع كتابات علي باذيب، وبسبب ذلك عانى ويلات الاستعمار البريطاني الذي وضعه في السجن، في عدن ثم في زنجبار، عام 1963. وبعد خروجه من السجن نشر باذيب مجموعته القصصية (ممنوع الدخول)، التي تعد أحسن نموذج للأدب الملتزم في اليمن.
فمن الوضح أنّ الهدف الرئيس لهذه المجموعة هو الدعوة إلى مقاومة الاستعمار البريطاني وبشكل رئيس من خلال تقديم نموذجي الثورة المصرية والثورة الجزائرية. فالقصة الثانية من مجموعة (ممنوع الدخول)، التي تحمل عنوان (تحيا مصر)، تحكي مشاركة الآلاف من أبناء عدن في مسيرة ضد المستعمر البريطاني خلال فترة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وذلك من خلال رصد مشاعر أحد أبناء عدن -التلميذ محسن الذي كان في الثالثة عشر من عمره - ضد العدوان الثلاثي على مصر، في المدرسة وفي البيت. ففي المدرسة، يقول الراوي: "اشتد صوت معلمه وهو يقول وعيناه تطوفان على جميع تلاميذ الصف: لكن مصر ستنتصر؛ إنها تحارب بشجاعة والعالم كله يقف مع مصر، وكانوا على ثقة من أننا نحن العرب سننتصر.. لازم ننتصر".
ومن الواضح أن هذه القصة القصيرة تربط بين الإعجاب بمصر وثورة مصر وبين بدء التعبير عن رفض الاستعمار البريطاني في عدن، عن طريق المشاركة في المظاهرات التي تهتف بصوت عالي: (يسقط الاستعمار). فالتلميذ محسن يقف بجوار النافذة، وتطرق سمعه أصوات عالية، ويتجه بعينيه إلى الشارع. و"كانت مظاهرة كبيرة تملأ الشارع وعلى الرغم من تحذيرات أمه، حمل صورة عبدالناصر وهتف مع الهاتفين: تحيا مصر، يسقط الاستعمار. ونصب جسمه وبدأ يخطو بثبات وقوة ويداه ترتفعان وتنخفضان في انسجام مع بقية الأولاد، وصدره يلهث وعيناه تحمران وتتسعان وهو يردد، من كل قلبه وبكل قوته، مع الآخرين، (تحيا مصر! يسقط الاستعمار).
وإذا كانت هذه القصة القصيرة تسرد تضامن أبناء عدن مع الشعب المصري وجمال عبد الناصر، فمن الواضح أن القاص علي باذيب- في هذه القصة وفي قصة (واحد منهم) التي تسجل تضامن أبناء عدن مع ثوار الجزائر، كان يمارس التوعية والتحريض الثوري، ويدعو أبناء مدينته عدن إلى مقاومة الاستعمار. ويدلل رفع صور جمال عبد اناصر في تلك المظاهرات على رغبة المتظاهرين في مقاومة الاستعمار في عدن أكثر من التضامن مع ثوار مصر أو الجزائر.
أما في قصة (والله قصة يا بو خليل)، أحدى قصص مجموعة (ممنوع الدخول التي صدرت قبل اندلاع ثورة 14 اكتوبر عام 1963)، فلا يتردد باذيب من التلميح بأن الشباب ربما قد شرعوا في مقاومة الاستعمار بوسائل أخرى غير الكلمات والمظاهرات؛ وقد عبّر الراوي عن ذلك بمزيج من اللغة الفصحى واللغة العامية العدنية قائلا: "مرر أبو خليل يده على وجهه، ثم حك مؤخرة رأسه بأصابعه، وعاد يفكر بحيرة واستغراب في عيال هذا الزمان اللي ما يشتوا يسمعوا كلام العقال.. وليتهم يفهمون الحياة من صدق! مش بس جالسين يتعلموا في المدرسة ويتكلموا في السياسة ويسبوا الاستعمار.. والله أعلم إش ثاني... الله يستر... بس". (ممنوع الدخول ص69، منشورات الصبان وشركاه عدن 1963)
أما في قصة (ممنوع الدخول) التي أعطت للمجموعة اسمها، فيحكي الراوي كيف فكر الأطفال- أثناء اللعب - في جلب بعض المفرقعات لإشعالها حين مجيء الدورية البريطانية. وعندما نبههم أحد الآباء إلى خطورة النتائج، قرروا التعبير عن رفضهم للاستعمار بإقامة حاجز/متراس عند مدخل الزقاق، علقوا عليه لافتة كتبوا عليها بالفحم "هذي طريق الأحرار ممنوع الدخول "نو أنتري". ونقلوا العبارة الإنجليزية من لوحة إشارات المرور. وتنتهي القصة بفرح الأطفال لهذا المتراس، الذي أقاموه في وجه جنود الاحتلال.
ويقول الراوي: "واتجهت الأعين ترمق فاروقاً بغبطة وإعجاب وأخذ هو قطعة الفحم وركع على ركبته، وبدأ يكتب، بدأ يكتب باضطراب وصعد الدم إلى رأسه وأحس برعشة تسري في كيانه وباختلاج في أصابعه.. وصاح سعيد، الذي كان يحس بالسعادة وهو يرى فكرته تتحقق ويقبل عليها جميع الزملاء بحماس ثم بصوت واحد انطلق صوتهم جميعاً يقرأ ما كتبه فاروق على لوحة الخشب.
(هذي طريق الأحرار ممنوع دخول الاستعمار NO ENTRY! نو أنتري)

ثانيا- مقاومة الاستعمار وأعوانه في قصص أحمد محفو عمر القصيرة:
أما أحمد محفوظ عمر فهو أحد مؤسسي اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وأحد رواد كتابة القصة القصيرة في اليمن؛ ففي عام 1956 منحته صحيفة (النهضة)، التي كان علي باذيب يدير تحريرها، جائزة لفوزه في مسابقة للقصة القصيرة نظمتها الصحيفة. وقد نشر أحمد محفوظ عمر عددا من المجموعات القصصية هي (الإنذار الممزق 1960) و(الأجراس الصامتة 1974)، و(يا أهل هذا الجبل 1978) و(الناب الأزرق (1980
مقاومة الاستعمار في (الناب الأزرق (1980
تتضمن مجموعة (الناب الأزرق)، التي تعد المجموعة الرابعة لأحمد محفوظ عمر من حيث النشر، خمس قصص قصيرة تمزج بين الاتجاه الواقعي التسجيلي والاتجاه الواقعي النقدي، وكلها كـُتِبت ونشرت في الصحف المحلية، خلال فترة الاستعمار البريطاني أي خلال فترة المقاومة. وقد حرص أحمد محفوظ عمر على توثيق تاريخ النشر الأول ومكانه تحت عنوان كل واحدة منها، لكي يؤكد ريادته للقصة القصيرة في اليمن.
لا تبرز مقاومة الاستعمار إلا في اثنتين من قصص هذه المجموعة: (حساب الشعب) و(الناب الأزرق)، أما الثلاث الأخريات فتتناول بالنقد بعض الظواهر الاجتماعية في عدن.
وتتضمن القصة الأولى من المجموعة: (حساب الشعب)، التي نشرت في 20 نوفمبر عام 1956 في صحيفة (الجنوب العربي)، نقدا مستحيا، ليس موجها ضد الاستعمار البريطاني مباشرة، بل ضد أحد أعوانه الذي انتخِبَ نائبا في المجلس التشريعي بفضل وعوده البراقة والكاذبة لأفراد الشعب. وعند قرب موعد الانتخابات التالية، بعد خمس سنوات من توليه منصبه، "عدل عن ترشيح نفسه في بادئ الأمر، لكنه وافق عندما سمع سماسرته وأذنابه المقربين إليه يزعمون أنه لم يزل يتمتع بحب الشعب وعطفه وثقته، وصدّق زملاءه مصاصي الدماء، خاصة عندما رأى أكداس الذهب بين يديه، العمارات الشاهقة أمام عينيه، وأخذ كعادته ينثر نقوده هنا وهناك لغرض الدعاية.. وظن أن الشعب ستغره النقود، وما درى أنه أعدّ العدة لليوم المنشود. وعند فرز الأصوات أغمي عليه عندما رأى اسمه في مؤخرة الفاشلين، وخرج يجر أذيال الهزيمة بينما أفراد الشعب يلاحقونه بالشماتة... وتناهى صوت الأرملة الحزينة إلى أذنيه كالرعد القاصف: يا ويلك من حساب الشعب!"ص16
أما قصة (الناب الأزرق)، التي نشرت لأول مرة في صحيفة الأيام بتاريخ 15 مارس 1964)، والتي تحمل المجموعة اسمها، فتصور بطريقة رمزية بعض أحداث ثورة 26 سبتمبر، وتدعو أبناء الجنوب إلى دعم هذه الثورة والمحافظة على مكتسباتها. كما أنها تتضمن دعوة مبطنة إلى أبناء الجنوب إلى نبذ الثورة بالكلام والفلسفة والبدء في مقاومة الاستعمار بالسلاح. نلمس ذلك من تجربة الحاج سعيد، أحد أبناء الشمال الذين هربوا من حكم الناب الزرق (الإمام)، واكتفوا في البداية بسبه وشتمه من عدن، وعندما قيل له (ص40-41): "لماذا لا تذهب وتحطم الناب الزرق بيدك؟ وشعر الحاج سعيد بالصفعة تملأ وجهه، وبأن كل كلمة هي بمثابة خنجر ينغرس في لحمه. ونكس رأسه إلى الأرض وأبت لسانه الحراك، وشعر أن السهم المنطلق قد أصاب منه مقتلا.. فلماذا لا يذهب إلى قلب المعركة وقد ذهب إليها من يقلون منه طول لسان وفهما لحقيقة المعركة وطبيعتها؟ وقد أصبحت الآن الفرصة سانحة له لكي يحطم الناب الازرق ويشارك في تحطيمه. إنه يشعر تماما أن الكلام وحده لا يجدي، بل على العكس يضاعف الجراح ويخلق له أراجوزا للتسلية والسخرية. العمل الجاد هو الذي يضع حدا للإشكال، وعليه أن يلجأ إلى فلسفة أخرى: هي فلسفة السلاح، وأن يودع الكلام والتكهنات السياسية .. وإلا فليصمت.. وذلك خير له وأسلم".
ويرى فيصل الصوفي أن مجموعة (الناب الأزرق): "تشير إلى طبيعة الدور النضالي الذي اضطلعت به القصة اليمنية القصيرة في حشد الهمم وإيقاظ الوعي الجماهيري، وإلهاب الضمائر الوطنية، للنضال ضد القوى الرجعية والاستعمار في اليمن".
مقاومة الاستعمار في مجموعة (الإنذار الممزق):
في هذه المجموعة تبرز مقاومة الاستعمار في القصة الرابعة منها فقط: (الإنذار المبكر)، التي أعطت للمجموعة عنوانها. وتتميز هذه القصة عن القصص القصيرة الأخرى التي قدمناها، بأنها تتضمن تصويرا لتمرد الشعب اليمني في الريف ضد الاستعمار وأذنابه، وذلك من خلال رفض أحد زعماء القبائل الانصياع لأوامر سلطات الحماية البريطانية، وتمزيق الإنذار الذي وجهته له بتسليم اثنين من المعارضين لسلطتهم. "وقبل أن يبت الشيخ في الأمر نقَّلَ عينيه بين وجوه جلسائه أو بالأحرى برلمانه الشعبي، فقرأ على وجوههم الشاحبة آيات الاستنكار والإصرار على رفضه، فالتقط الشيخُ الرسالة بحركة آلية ومزقها نصفين، ثم أعادها إلى الرسول ثانية، وقال بصوت يخنقه الغيظ: نحن في الانتظار للترحيب بكم، وعاد الرسول إلى حكومته".(ص13)

ثالثا: القاص عبد الله سالم باوزير مقاوما:
قبل أحد عشر عاما رحل عن هذه الدار الفانية إلى دار البقاء والخلود القاص المبدع عبد الله سلم باوزير الذي، على الرغم من الفقر الشديد والأمراض المختلفة التي كان يعاني منها بصمت، يواصل عطاءه الإبداعي باقتدار حتى يوم وفاته في السادس من اكتوبر من عام 2004. فهو منذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي استمر في كتابة القصة القصيرة والمسرحية وأدب الرحلات والسيرة الذاتية، والمقالات. وبفضل إتقانه لأدوات السرد استطاع، منذ عام 1965، حينما نشر أول مجموعاته القصصية (الرمال الذهبية)، أن يفرض نفسه في الساحة الأدبية اليمنية والعربية، وأصبح أحد رواد هذا الجنس الأدبي في اليمن. وقد نشر مجموعته الثانية (ثورة البركان) في نهاية عام 1967، ومجموعة (الحذاء) عام 1987، ومجموعة (سقوط طائر الخشب) عام 1991، (محاولة اغتيال حلم) عام 1999، بالإضافة إلى تلك المجموعات القصصية نشر باوزير كتبا أخرى أهمها (يا طالع الفضاء 1995) و(أيام في بومباي 1998)، وطبعة جديدة ومزيدة من (سفينة نوح 2001)، و(حمقاء لكن ظرفاء)، و(ديش وغداء ما فيش).
مقاومة الاستعمار في مجموعة (الرمال الذهبية):
تّعد (الرمال الذهبية)، التي أصدرتها منشورات الصبان في عدن في يناير من عام 1965، المجموعة الأولى التي ينشرها عبد الله باوزير. وإذا كانت هذه المجموعة لم تتضمن نصوصا تركز على قضية مقاومة الاستعمار بشكل مباشر، فـ (المتسللون)، أول قصة نشرها عبد الله سالم باوزير - باسم مستعار (عبده) - في صحيفة الطليعة في 11 أبريل من عام 1963، كانت تحتفي بانتصار ثورة 26 سبتمبر في شمال اليمن.
وكما هو الحال في معظم قصصه القصيرة، حاول باوزير في هذه القصة تصوير نضال اليمنيين ضد بقايا الإمامة وأذناب الاستعمار الذين حاولوا إجهاض ثورة 26 سبتمبر، وذلك من خلال الجمع بين فن المفارقة وبعض العناصر الرومانسية.
فالروي يحكي كيف ينتهي الأمر بإحدى الأمهات المتحمسات للثورة أن تقتل ولديها اعتقادا منها أنهما من المتسللين.
"توقفت أم الخير قليلا عن تتبع خواطرها لتمسح دمعتين انحدرتا على وجنتيها الغائرتين، وقد بلغ بها التأثر مداه؛ فزوجها الذي بارح لتوه المنزل ليدافع عن قريته وليفتدي ثورته التي أطاحت بالإمامة الباغية، قتله المتسللون، قتلوه لأنه شيخ كبير لا يقوى على القتال. علمت بكل شيء من ذلك الشاب الذي يقود المعركة ضد المتسللين الذين بعثهم الاستعمار والرجعية. ... ولم تشعر أم الخير بنفسها إلا وهي تصيح فجأة بصوت مسموع: أين أنتم يا أولادي؟ أين أنتم يا أولادي لتذيقوا هؤلاء الكلاب الموت...". ورغم كبر سنها فقد حملت أم الخير البندقية وتقدمت إلى ميدان المعركة وعند عودتها إلى قريتها في الظلام لمحت شبحين يحاولان فتح باب منزلهما فأردتهما قتيلين.. ولم يكون هذان المتسللان إلا ولداها اللذين كانا مسافرين. وكانت آخر كلمات أحدهما "لا تبتئسي يا أماهّ فليس لنا جزاء لما اقترفناه في حق الله والوطن غير الموت". ص24-25
ولا شك أن هناك ثمة تشابه بين موضوع هذه القصة القصيرة وقصة (الناب الأزرق) التي أعطت اسمها لعنوان أول مجموعة للقاص أحمد محفوظ عمر والتي نشرت في حلقات في صحيفة الأيام في النصف الأول من عام 196، والتي ألمحنا إليها الجزء الثاني من هذه الورقة.
ومن المؤكد أن الناشر الفقيد علي الصبان كان موفقا جدا عندما وضع في الغلاف الأول لمجموعة باوزير (الرمال الذهبية) رسمةً معبرةً لامرأةٍ حاملةٍ السلاح.

مقاومة الاستعمار في مجموعة (ثورة البركان):
أما (ثورة البركان) فتعد المجموعة الثانية لعبد الله سالم باوزير. وقد أعدها القاص للطبع قبل الاستقلال، ويؤكد في مقدمة الطبعة الأولى التي وقعها بتاريخ 14 اكتوبر 1967 أن جميع قصص المجموعة كتبت قبل الاستقلال، أي خلال فترة النضال ضد الاستعمار البريطاني، وأن عددا منها سبق وإن نُشِر في الصحف. لكن المجموعة لم تظهر بين دفتي كتاب إلا في نهاية عام 1967وبداية عام 1968.
وقد كان الأديب عبد الله باوزير استشرافيا في نهاية المقدمة التي وضعها لهذه المجموعة، إذ اختتمها قائلا: "في نهاية العام الحالي تبدأ باسم الشعب، وباسم الكفاح، وباسم الشهداء، تباشير الحرية والاستقلال، وسيصبح كل ما قاسيناه ذكرى كفاح، ذكرى جميلة سيسجلها لنا التاريخ لتكون أثرا خالدا ورمزا قويا لكفاح الشعوب من أجل الحرية والاستقلال. الله أكبر. وعاش شعبنا في الجنوب والشمال حرا كريما".ص8
وعلى الرغم من أن القاص قد اختار لهذا المجموعة القصص القصيرة التي يمكن أن تدخل تحت سطوة الهيمنة الدلالية للعنوان: (ثورة البركان)، فالقراءة تبيّن أن سبعا من القصص تتناول فعلا موضوع مقاومة الاستعمار البريطاني في عدن، أما الخمس الأخريات فتتناول بالنقد قضايا اجتماعية مختلفة.
لمقاومة أعوان الاستعمار في المجلس التشريعي يوظف باوزير في قصة (الهدية) السلاح نفسه الذي استخدمه أحمد محفوظ عمر في قصته الأولى (حساب الشعب): الانتخابات. لكن إذا كان أحمد محفوظ عمر قد جعل النائب يسقط في الانتخابات بعد الأصوات، فالراوي في قصة (الهدية) جعل الانتخابات تفشل برمتها بفضل نجاح البطل وحبيبته وزملائهم في دفع الناس إلى مقاطعة الانتخابات. وتلك كانت هديه البطل محمد لحبيبته فاطمة، هذا ما قالته له وهو ممددا في المرض بالمستشفى: "لقد قدمت لي اليوم وللشعب جميعا أثمن هدية. لقد سقط أحمد حسين في الانتخابات وسقط كثيرون غيره. كما أعرض كثيرون من الناس عن هذه الانتخابات وقاطعوها بفضل كفاحك وجهادك. إن هذه أثمن هديه أتلقاها اليوم منك. ألا تدري بأن مقاطعتك للانتخابات أثارت اليوم كثيرا من الجدل بين الناس، حتى أن خيرة شباب البلد فكر في قيام تنظيم كبير يقوم بتبصير الشعب بحقوقه السياسية. ألا ترى قيمة هذه الهدية التي ستقود النضال السياسي إلى الاستقلال؟ ولم يجب محمد. لكن شيئا ما ارتسم على وجهه، شيء يحمل معاني كثيرة: معاني التضحية والكفاح، معاني السير في الخط الذي بدأه الشعب في صباح ذلك اليوم. ومرت بينهما تلك اللحظة فترة صمت أعقبتها أعوام مليئة بالحب والعمل ظل الشعب فيها يناضل ويجاهد حتى سُمِع صوته يردد في كل البقاع: سنكافح، سننتصر".ص54
وتتميز مجموعة (ثورة البركان) لعبد الله سالم باوزير باحتوائها ثلاث قصص قصيرة توظف ظاهرة منع التجول لمقاومة الاستعمار البريطاني في عدن: (ناصر) و(الزائر) و(ثلاثة أيام في السجن).
في قصة (ثلاثة أيام في السجن) مثلا: يقتصر فعل المقاومة على توجيه النقد اللاذع لقانون منع التجول وسب الاستعمار. وهذا أضعف....! ففي نهاية اليوم الأول يكتب الراوي: "بعد جهد كبير وصلت إلى المنزل ودلفت إلى سلمه الضيّق، وبدأت أثب درجاته وأنا أسب الاستعمار على كل درجة ارتقيها، وما أن وصلت الغرفة هلل الرفاق لمقدمي، إذ أنهم ظنوا أن حادثا ما قد وقع لي، ولما لم يجدوا مني ما يثير ظنونهم وخيالاتهم انصرفوا عني، وتركوني أفكر فيما تخبئه لنا الأيام القادمة، وكأنني أريد أن أستبق الأحداث عن الانفجار الذي نستهل به فجرنا الجديد".ص24
أخيرا يمكن أن نربط بين القصة الأولى في مجموعة (ثورة البركان: ناصر) وقصة (تحيا مصر) لعلي عبد الرزاق باذيب 1963؛ ففي كلا القصتين يتم التحريض على مقاومة الاستعمار البريطاني من خلال الاحتفاء بعبد الناصر وثورة 23 يوليو المصرية.

خاتمتان:
1- هل أدى السرد القصصي دورا تحريضيا إيجابيا في مقاومة الاستعمار مثلما قام به الشعر الشعبي والأغنية مثلا؟
أعتقد نعم. فقد مهدت المجموعات القصيرة التي قدمناها في هذه الورقة لقيام الثورة ضد الاستعمار البريطاني من خلال التوعية والتحريض وتقديم النموذج الإيجابي الذي ينبغي اتباعه. ومع ذلك يعترف القاص عبد الله سالم باوزير بأن الكلمة وحدها لن تحرر الأوطان، ويتناول في نهاية قصته (ثلاثة أيام في السجن) الحدود التي لا يمكن أن يتجاوزها السرد المقاوم وكذلك جميع أنواع الكتابة الأخرى: وقد كتب: "بدا لي الشارع [في كريتر عدن]- كممر ضيق طويل بأحد السجون المظلمة، كما بدت لي البنايات الشاهقة صغيرة جدا. تضاءلت أمام عيني حتى اصبحت زنزانات ضيقة. ولمحت السجان من بعيد يطرق الأرض الإسفلتية بقدميه الغليظتين. وفجأة سقط القلم من يدي وهوى على الرصيف أمامه، فداسته قدماه، وحطمته، لكني لم أتأسف على لقلم؛ فلم يعد له جدوى بعد ذلك. لقد أيقنت أن القلم لن يستطيع الآن أن يعمل شيئا مهما برع، مهما بلغت كلماته من القوة والشدة. وعدت إلى فراشي يائسا قنوطا، وفيما كان جذعي يتهاوى على الفراش ترامى إلى سمعي صوت انفجار قوي ألجم لساني؛ لقد أتت به الرياح من مكان ليس ببعيد عن منزلنا، وهنا أيقنت أن ذلك أبلغ من القلم، وأقوى من الكلمة، ونمت ليلتها نوما عميقا".ص28
2- هل استطاع كتاب القصة القصيرة الذين كرسوا قصصهم لمجابهة الاستعمار الإفلات من فخ المباشرة والتسجيلية واستطاعوا التوفيق بين التحريض وفعل المقاومة وبين الالتزام بالمعايير الفنية لجنس القصة القصيرة؟ في كثير من الأحيان يميل الأدب الملتزم شعرا ونثرا إلى المباشرة والخطابية، وهذا الميل يفقده كثيرا من رونقه وجماله الفني. وقد ينطبق ذلك جزئيا على معظم نصوص مجموعة (ممنوع الدخول) لعلي عبد الرزاق باذيب، التي تعد في المقام الأول دعوة للكتاب اليمنيين الآخرين إلى توظيف أقلامهم من أجل الثورة والإسهام في الكتابة ضد المستعمر البريطاني.
وبالمقابل، نعتقد أن القاصين أحمد محفوظ عمر وعبد الله سالم باوزير قد نجحا في المزاوجة بين المقومات الفنية لجنس القصة القصيرة كما كان يُكتب في ذلك الحين، وبين متطلبات العمل الثوري التحريضي الملتزم. ومن المعلوم أن هذين القاصين قد استمرا في تجديد أدواتهما في كتابة القصة القصية على مدى مسيرتهما الإبداعية، وقد شهد بذلك معظم من كتب عنهما.
ويمكن أن نؤكد هنا أن القاص المبدع عبد الله سالم باوزير قد بنى جميع أفعال المقاومة السردية في قصصه على أساس فن المفارقة الذي في الحقيقة يعد السمة الأولى لجميع قصصه القصيرة؛ فهو يميل دائما إلى المزج بين المواقف الرومانسية الحزينة أو الفكهة ومواقف الصراع مع العدو. فمشاركة الأم في المقاومة كان أيضا سبب قتلها لولديها، وإصابة البطل (/الراوي) بفيروس الزكام الخبيث في قصة (الزائر)، يصبح سلاحا فتاكا يستخدمه البطل ليمرض به أكبر عدد ممكن من قوات الاستعمار. إضافة إلى ذلك يبتعد باوزير –كما ذكرنا- عن المباشرة و(الزعيق) عند تناوله للموضوعات السياسية في قصصه القصيرة.