قصة قصيرة ..الملكة
الثلاثاء - 16 يوليه 2019 - 01:36 م بتوقيت عدن
منصور نور
تابعونا على
تابعونا على
كانت محاطة بإهتمام نساء القرية, و هُنَّ يراقبنها وهي تنمو مثل شجيرة باسقة, ينتظرنَ نضوج الثمار على أفنانها الخضراء, ليتـقدمنَ لخطبتها إلى أحد أبنائهن من شباب القرية، قبل أن تكمل نجيبة عامها الحادي عشر, جرت مراسيم زواجها و أنتقلت إلى دار أهل زوجها, الذي يكبرها بأكثر من عشرة سنوات ، وأمضت سنواتٍ معه , وهي تعامل كخادمة لأمه وإخوته, تكنس الدار وتجلب الماء في علب بلاسـتيـكية كبيرة تحملها فوق رأسها، من بطن الوادي إلى قمة الجبل، حيث ينتصب الدار, وترعى الماشية كل النهار.
تدهورت صحتها ونحل جسمها وذبلت ابتسامتها, بسبب قسـوة تعامل الزوج وأمه معها, بلغت أخبار أحوالها إلى مسمع أبيها, وأن إبنته قد تعرضت للضرب المبرح لأكثر من مرة, من قبل زوجها وأمه, وهو معتل نفسـياً.. قرر الأب إعادة إبنته إلى داره, ليخلصها من الجحيم الذي رأته, وطلب من أهل زوجها البدء بإجراءات طلاقها من ولدهم المعتوه!
واجهت نجيبة في دار أبيها وضعاً جديداً, كطفلة ٍ مطلقةٍ، حرمتها العادات من عيش طفولتها البريئة، وهي لا تعي ما معنى أن تكون مطلقة، في مجتمع محافظ إلى حدٍ كبير, وما عاد يسمح لها باللعب مع الأطفال، أو العودة إلى المدرسة للتعلم، رغم معاناتها في الحياة الجديدة، بدأت نجيبة تكبر وتزداد جمالاً وتزهر في ربيع جديد، وبدت ملكةً بروحها المرحة ورشاقة جسدها، الذي أسـتعاد تفاصيل مفاتنها، في لوحة مثيرة للإعجاب والتأمل.. لا يستطيع أيٍّ كان أن يبعد نظره عنها, وإذا أحسّ بالخجل طأطأ برأسه إلى الأرض، فسحره ظلّها ومشى البصر خلفه متأملاً خطر دلالها وتمايل قدها الهيَّاف.
و في أقل من عامين قضتهما نجيبة في دار أبيها، زُفّت مرّة ً ثانيةً، إلى رجل أمضت معه خمس سنوات, لم تلامس السعادة وسادتها، ولم تعش لحظة من الهناء أو الفرح ! جعلتها تنفر من سلوك زوجها ذي الرائحة النتنة المنبعثة من فمه وجسده، الذي ما كان يقدم على أمرٍ إلّا بعد مشورة أمه، التي كانت تُسـمِعها الكلمات الجارحة كل يوم، لأنها لم تمنح ذلك البيت بهجة ميلاد طفلٍ فيه.
عادت إلى دار أبيها، بعد سنوات لم تشـتهِ فيها لأكل وجبة مفضلةٍ كما تشعر به معظم المتزوجات في أسابيع الحمل الأُولى، أو (تَخْوَر) أكل ثمار التمر الهندي، أو المنجا البسر والجوافة الخضراء، لم تعرف ماذا يعني الوحام لطفلة (متزوجة) لم تطرق السعادة أبواب حديقتها ؟
عادت إلى دار أبيها وقد تركت كل ذكرياتها وأيامها الحزينة خلفها، وبعد فترةٍ استهوتها فكرة الإلتحاق لإستكمال محو أميّتها وبدورة لتعلم الخياطة و التطريز في إحد المراكز التعليمية، ومع مجموعة من فتيات القرية، أظهرت نجيبة براعتها في التعلم وإتقان فنون الخياطة والتطريز، وأكتسبت مهارة تفوقت بها على بقية الفتيات, وطوّرت من نشاطها وأسـسـت لها معملاً صغيراً للخياطة لتلبي طلبات النساء من الفساتين, وكَبُرَ طموحَها مع توسع نشاطها، وأفتحت لها محلاً كبيراً لبيع وتأجير الأثواب وفساتين الأعراس.
ذات يوم ، وهي مصابة بنزلة برد شديدة ، دخل شابٌ محلها، بعد طرق الباب الزجاجي، نهضت نجيبة من مكانها، وقد زالت عنها كل آلام نزلة البرد (الزكام), مرحبةً به وذهبت تعرضُ أمامه الفساتين، كأنها تختارَها لنفسها، لأنها رأت فيه من أنتظرته طويلاً, لترتدي أجمل الفساتين التي يليـق بحلم كل فتاة أنتظرت رؤية قطرَ الندى يُحَطُ على وريقات الورود.
حاول الشاب لفت إنتباهها، ويخبرها عن سبب زيارته لمحلها، وإلى حزمة الأوراق المطوية التي بيده، وبعد ثوان قليلة .. أسكنت أحاسيسها وأنفاسها، وعرفت منه أن المطلوب توزيع المناشير الورقية على النساء اللاتي يزرنَ محلها، وليسـهمن جميعاً، في حملة التوعية لمنع تزويج القاصرات، وبينَ ما هي منبهرة بسماع حديثه وأناقته، شعرت برغبةٍ لإطلاق صهيل مشاعرها .. كلها دفعة واحدة، فرفرفت معها فساتين الأعراس المعروضة وتلألأت فصوص (الترتر) الشفافة بومضاتها اللازوردية، وأراد الشاب أن يكبح جماح ذلك الصهيل، ويعيـد نجيبة إلى هدوئها فأمسـك بيدها، وأشبكتهما إبرة التطريز بوخزة خفيفة كانت بيدها، ودون وعي أدخلت نجيبة أصبع الشاب إلى فمها لتمتص قطرة دم صغيرة في محل الوخزة اللطيفة، وهي تحسبها أنها أصبعها، التي زال عنها الألم وهي بين شفتي ذلك الشاب.