آخر تحديث :الجمعة - 19 أبريل 2024 - 01:21 ص

كتابات واقلام


حق الشعوب في تقرير المصير والانفصال .. نظريات الانفصال(2)

السبت - 01 ديسمبر 2018 - الساعة 02:52 م

د. محمد جعفر قاسم
بقلم: د. محمد جعفر قاسم - ارشيف الكاتب


حق الشعوب في تقرير المصير والانفصال
ومبدأ احترام السلامة الاقليمية للدولة


القسم الثاني: نظريات الانفصال

كانت الادبيات في الماضي حول موضوع الانفصال قليلة وغير متطورة بصورة كاملة، ولكن تطور الوضع وظهرت نظريات تفصيلية قوية نسبية حول الانفصال السياسي. وتهدف هذه النظريات الى تحديد أي جماعة من الجماعات البشرية وتحت أية ظروف يحق لها فصل نفسها عن الالتزامات ببقائها في اطار الدول التي تمارس السلطة علي اراضيها.
ويرتكز المنطلق النظري للانفصال من مقولة أن الشعوب وحدها وليست الدول هي التي تمتع بحق تقرير مصيرها وبالتالي بتكوين دول خاصة بها. ويمكننا تقسيم نظريات الانفصال عن الدول الى طائفتين من النظريات، الاولى نظريات الانفصال كحق اولي اصيل والثانية نظريات الانفصال كعلاج اخير.

اولاً: نظريات الانفصال حق اولي اصيل

تنقسم نظريات الانفصال حق اولي اصيل بدورها الى قسمين، الاول نظريات التقرير الوطني للمصير والثاني نظريات الاختيار او الاستفتاء.

1- نظريات التقرير الوطني للمصير

تنادي نظريات الانفصال بحق تقرير وطني للمصير، وتشير بأنه حق لمجموعة من البشر تتوافر فيهم عددا من الشروط. وتتميز هذه النظريات بتمسكها باطروحة أن الشعوب وحدها هي المالكة الصحيحة لهذا الحق وتحصل عليه بسبب كونها شعوب متميزة تطمح الى أن تحكم نفسها بنفسها، أي ان هذه النظرية لا تربط الحق في الانفصال بوجود ظلم واقع على هذه الشعوب بل أن الانفصال كما قلنا يتقرر لها كحق اصيل اولي. ولا يعني هذا ان هذه النظرية تنادي بالوطنية العدوانية التي تقول بأن احد الشعوب افضل من غيره من شعوب العالم بل تتمسك فقط بالقول ان الشعب يجب ان يشكل الوحدة الاساسية للدولة.
وتحاول هذه النظرية أن تثبت ان الدول ذات الاساس القومي الواحد تكون افضل من غيرها من الدول المتعددة القوميات بسبب سيادة قومية واحدة فيها. وهكذا فإن هذه النظرية تؤكد بأن الشعب هو الوحدة الاساسية للدولة، وبالتالي يمتلك حق الانفصال عن الدول التي تضم شعوباً مختلفة وذلك بسبب كونه شعباً متميزاً بذاته.

أ‌- نظرية جون ستيورت ميل John Stewart Mill
ويرى بعض المفكرين كجون ستيورت ميل عدم وجود شعور أو تعاطف جماعي في الدول المتعددة القوميات، ذلك لأنهما لا يتوجدان إلا فقط في اوساط مواطني قومية معينة تجعلنهم يشتركون في شعورمشترك بهم وحدهم ويتعاونون مع بعضهم البعض بصورة اختيارية،. كما يرى ميل ان لدى هولاء المواطنين الرغبة في العيش في ظل حكومة منفصلة عن حكومات الشعوب الاخرى، ويرى بأن الرأي العام المشترك والحكومة التمثيلية لا يمكن ان يتوجدان في الشعب الذي يتكلم لغات متعددة، وانه نتيجة لكل تلك الاسباب تكون جيوش الدول المتعددة القوميات ضعيفة عسكرياً، لأن ولاء الجنود ينصرف فقط الى العلم بينما تكون قلوبهم تخفق لبلد اجنبي. ويستنتج ميل من كل ذلك ان حدود الدول يجب ان تتلائم مع حدود الشعب.
ب- نظرية ديفيد ميلر David Miller
والمفكر الآخر الذي يأخذ بنظرية التقرير الوطني للمصير هو ديفيد ميلر في كتابه "عن القومية" فيرى بأنه تكون للجماعات القومية قضية جيدة لكي تنادي بتقرير مصيرها. ولكن مع ذلك يرى أنه في بعض الاحيان يتعذر تحقيق تقرير المصير فعندئذ يرى ان على هذه الجماعات الاكتفاء بشيء اقل من الحكم المستقل.
فوفقاً له فإن الدولة المستقلة هي افضل سبيل للشعب لتحقيق مطلبه بناء على حجتين يوردهما لتدعيم وجهة نظره. وترتكز الحجة الاولى على مقوله يضعها ميلر حول " من الشعب الى الدولة" التي تظهر اهمية الهوية الوطنية وعلى مقولة "من الدولة الى الشعب" التي تبرز الفائدة الكبيرة للمشاعر الوطنية في التسيير الجيد لأمور الدولة.
كما ينادي بوجود اسباب قوية لمنح تقرير المصير تقوم على اساس العدالة الاجتماعية، فهو يرى الشعب عبارة عن جماعة ترتبط بعدد من الالتزمات يعترف اعضائها بوجود واجبات تجاه بعضهم البعض من اجل تحقيق الاحتياجات الاساسية للجماعة ومصالحها. ويرى أن تسند لهولاء الاعضاء هذه الالتزمات وان يقوموا بتنفيذها وان الدولة هي الجهة التي يمكنها تطوير مؤسساتها التي تمنح الشعب الحقوق وترتب عليه الالتزمات، وهكذا تكون للالتزمات محتوى محدد. وعلى الرغم من اعتقاده بأن توزيع العدالة لاجتماعية على هذا النحو تكون ممكنه سواء في إطار الجماعة أو خارجها، ألا أن ذلك لايحول دون بروز قضية تتعلق بضرورة اضفاء المشروعية على نظام عدالة التوزيع في اعين الشعب، لأن كل جماعة تشعر بأن لها الحق بامتلاك مواردها والموارد التي تنشأها.
وحجة ميلر الثانية تتعلق بحماية الثقافة الوطنية.فالثقافة المشتركة لا تخلق فقط الشعور بالانتماء ولكنها تخلق ايضاً الهوية التاريخية التي تشكل الخلفية المعاكسة للاختيارات الفردية حول طريقة حياة الافراد. فيرى ميلر أنه إذا دمرت الثقافة الوطنية فإن ذلك سيكون ضاراً جداً لمن يحملونها وسيجبرهم على تبني ثقافة اخرى مختلفة عنها وهذه عملية صعبة ومؤلمة. ويعطي ميلر لعناصر الثقافة اهمية كبرى لأنها تلعب دوراً رئيسياً في البعد العام، خاصة في محتوى التعليم والتربية. كما ان وجود الدولة الوطنية ضروري للمحافظة على الثقافة الوطنية لوجود دوافع قوية لدى الشعب المسيطر في الدولة المتعددة القوميات لدمج الشعوب الاضعف منه تحت لواء ثقافته.
فالاسباب الموجبة لمقولة من الشعب الى الدولة تدعم في نفس الوقت المقولة الاخرى "من الدولة الى الشعب". فأفضلية نشاط الدولة في إطار الدولة الديموقراطية ينبني على اساس ان الذين ينتمون لشعب واحد سوف يتعاونون بصورة افضل من غيرهم بسبب انتمآتهم المشتركة والثقة التي يولونها للدولة وتجاه بعضهم البعض.
ويرى ميلرأن الهوية المشتركة التي يرتبط بها اعضاء الجماعة القومية تمكّن ايضاً الدولة من تطبيق العدالة الاجتماعية على نحو أفضل. وعليه يرى أنه بناء على جميع هذه الاسباب ينغي أن ترسم الحدود السياسية للدولة بشكل يتوافق مع الحدود الوطنية للجماعة القومية كلما أمكن ذلك.
ولكن من ناحية أخرى لا يولي ميلرالجماعات العرقية نفس أهمية الجماعة القومية التي تشكل الاغلبية وتنادي بالانفصال، لأن من الممكن أن توجد في الدولة مجموعات عرقية متعددة ولكن يكون للدولة مع ذلك هوية مشتركة لمواطنيها. وضرب مثالا على ذلك بالولايات المتحدة الامريكية . وعليه لا ينبغي منح كل من هذه الجماعات العرقية الحق بتكوين دولة خاصة بها ولكن ينبغي منحه فقط للجماعات القومية المدمجة في الدولة التي توجد لها هويات خاصة بها غير قابلة للتصالح مع غيرها من الهويات القومية الاخرى.
ووفقاً له يكون الانفصال ممكناً فقط في هذه الحاله إذا نتج عنه دولة تتعدد فيها القوميات على نحو محدود.
ومن الملاحظ أن الانفصال يتقرر على اقاليم محددة لا توجد بها اقليات كما أن الدولة التي تسعى للانفصال ينبغي ان تتوافر فيها قابلية الاستمرار على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
وفي اعماله اللاحقه يرى ميلر أن الاقلية ترى نفسها كشعب متميز وانها تسعى للانفصال عن شعب الاغلبية وذلك بواسطة التقرير الوطني لمصيرها.
ولا يعرّف ميلر الشعب من الزاوية العرقية بل من الزاوية المدنية الحضارية التي تسمح بانفصال الاقليات. وهكذا يعرّفه بأنه "جماعة من الناس تعترف لبعضها البعض بالانتماء المشترك كما تعترف بوجود التزامات مترتبة عليهم، تسعى للحصول على استقلالها بسبب الخصائص التي يعتقدون بأنهم يشتركون فيها وهذه في العادة هي التاريخ المشترك والارتباط بمكان جغرافي معين وثقافة عامة تميزهم عن غيرهم."
وهكذا فإن ميلر يضيف الى تعريفه عنصر الارض أو الاقليم، لأن الجماعات عند انفصالها ستحصل على جزء من اقليم الدولة التي ستنفصل عنها تلك الجماعة وأنه على هذا الاقليم ستقوم الجماعة المنفصلة بالتشريع لنفسها باصدار مختلف القوانين بما فيها قوانين الملكية الخ، كما أنهم سيدفونون موتاهم على ترابه.
وأخيراً فإن ميلر لا يهمل كليا الاقليات العرقية التي ستبرز مشكلتها في الدولة الجديدة المنفصلة. ويرى في هذا الخصوص ضرورة أن تكون هذه الدولة قادرة على حماية نفسها وكحل لهذه المشكلة يرى تطبيق النقل الاختياري للسكان.

2: نظريات الاختيار أو الاستفتاء

تختلف هذه النظريات عن نظريات التقرير الوطني للمصير بأنها لا تشترط في الجماعة التي تسعى للانفصال بأن تكون في حد ذاتها شعبا مكتمل الاركان على الرغم من أن هذه النظريات لا تستبعد وجوده. وبدلاً عن ذلك تولي هذه النظريات أولاً الاهمية الى مسألة تركز الجامعة الساعية للانفصال في اقليم أي أرض معينة بغض النظر عن وجود او غياب القواسم المشتركة بين اعضائها. وثانياً يجب ان تظهر رغبتها في الانفصال عن الدولة بواسطة تصويت اغلبيتها لصالحه . وهكذا فإان هذه النظرية تجعل الانفصال يأخذ معنى حكم الاغلبية.
وتقدم نظريات الاختيار أو الاستفتاء الانفصال على أنه يتوافق مع المبادىء الليبرالية والمبادىء الديموقراطية ولهذا يشار احيانا الى هذه النظريات على انها نظريات الانفصال مع عدم وجود الاخطاء.
أ‌- نظرية هاري بريمن Harry Breman
فهاري بريمن هو اول من كتب عن الانفصال ونظّر له. وتستند نظريته على رضى الناس بأن يكونوا جزءاً من وحدة سياسية تشيّد بناء على التماسك الاختياري لاعضائها. فوفقاً لمفهومه فإن الدولة عبارة عن وكيل للناس وان هذه الوكالة قابلة للالغاء أي بعبارة اخرى إذا ارادت اغلبية الناس في جزء من الدولة عدم الاستمرار في إطارها فلهم الحق في عدم الاستمرار فيها.
وحجته في القول بالانسحاب العادل من الدولة تؤكد أن هذا الانسحاب يتم على النحو التالي:-
1- لا يمكن أن تعتبر الدولة وفقاً للنطرية الديموقراطية المالك الاخير لحق الانفصال.
2- الدولة الديموقراطية هي وكيل للناس.
3- أن هذه الوكالة قابلة للالغاء.
4- وعليه ينبغي أن تنبع جميع الحقوق التي تحوزها الدولة من الناس الذين تكون وكيلة عنهم.
5- وبالتالي إذا ارادت غالبيتهم إتهاء الوكالة التي تربطهم بالدولة فيمكنهم الغائها والانسحاب منها.
واصغر وحدة يقرر لها بريمن حق الانفصال هي المجموعة الاجتماعية التي تتكون من عدة عائلات تكون قادرة على الاستمرارعبر الزمن ككيان متميز بذاته، ولهذا الغرض ينبغي أن تكون هذه الوحدة قابلة للحياة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
ويأخذ ميلر ايضاً بالانفصال الانعكاسي لأنه يرى ان الجماعة التي تنفصل توجد بها ايضا عدة وحدات صغيرة من الناس تكون مؤهلة للانفصال، وبصددها يرى بريمن منحها جميعاً حق الانفصال عن الدولة الجديدة لنفس الحجة السابقة أي حجة الوكالة القابلة للالغاء.

ب‌- نظرية ديفيد فليبوت David Philpott
يبني ديفيد فيلبوت نظريته على حق تقرير المصير، فيقول ان على الرغم من السمعة السيئة التي رافقت حق تقرير المصير بالنظر لسوء استخدامه بعد الحرب العالمية الاولى، إلا أنه يظل مع ذلك مبدأً هاماً بسبب وضعه من قبل الديموقراطيين و بسبب ايضاً كونه جزءاً لا يتجزأ من الديموقراطية، لان جذوره توجد في الاستقلال الاخلاقي الذي هو جوهر الديموقراطية.
وهكذا يأخذ فيلبوت مفهوم كانت القائل بأن الافراد الذين يتحلون بالاخلاق هم الافراد الاحرار الذين لا يتصرفون على اساس الاجبار او الاقناع من قبل الاخرين بل يتصرفون بناء على ارادتهم الحرة من اجل اهداف وضعوها نصب اعينهم.
وينبغي أن يكون الاستقلال ملبياً للمؤسسات السياسية، أي أن يكون القانون حامياً للحرية وان يشترك الناس المستقلين في رسم سياستهم بواسطة المشاركة والتمثيل. فعلى هذا النحو إذن تتكوّن المؤسسات السياسية.
واخيراً، فإن نظرية فيلبوت تشتمل ايضاً على مبدأ عدالة التوزيع التي تتجلى في توزريع الثروة والبضائع الاخرى. ومن بين هذه العناصر الثلاثة فإن العنصر الثاني هو الذي يتعلق بالتقرير الوطني للمصير.
وعلى هذا النحو يرى فيلبوت ان تقرير المصير وحيد من نوعه بمعنى اته "ينشر الديموقراطية بين جماعة يدعي اعضائها لاغراض سياسية باشتراكهم في هوية معينة وثانيا تسعى هذه الجماعة من اجل انشاء حكومة خاصة بها تكون على نقيض الجزء الاكبر من ممثلي الدولة التي سينفصلون عنها.
وفي هذا الصدد علينا أن نلاحظ ن اشتراك هؤلاء الناس في هوية معينة لا يعني أن هذه الهوية هي هويتهم الوحيدة. لأن الممكن في الواقع ان تختلف ديانات واعراق اولئك الذين يشتركون في تلك الهوية السياسية .
كما أن هؤلاء الناس يقيمون في ارض او اقليم معين، أي يجب ان يكون هولاء الناس غير موزعين على طول البلاد وعرضها بل ينبغي لهم ان يتمركزوا في اقليم او ارض معينة.
ولايشترط فيلبوت من اجل منحهم الحق على الاقليم او الارض أن تكون هذه الجماعة من الناس قد عانت في الماضي او لا زالت تعاني من المظالم لأن هذا الحق ينبع من واقعة انهم يعيشون على سطحها، وانهم بانفصالهم ينشئون حكومة جديدة مشتركة لهم تقام على جزء من اراضي الدولة السابقة، وعلى هذه النحو يتشكل حقهم على تلك الاراضي او ذلك الاقليم ويتقرر هذا الحق. وعليه ووفقاً لهذا المبدأ ذاته إذا تركزت اقلية اخرى في ارض معينه في الدولة الجديدة فتمنح هذه الاقلية ايضاً حق الانفصال.
ومن ناحية اخرى ومن اجل تفادي الاضطرابات والعنف وسفك الدماء التي يمكن ان تنجم عن الانفصال ينبغي عند دراسة منحهم حق الانفصال عن الدولة الجديدة او حجبه عنهم، بحيث يتم تطبيق المبدأ الذي يبرر الاشتراك في الحرب العادلة أي ان يتم النظر فيما إذا كانت فوائد الانفصال تفوق مساوئه فعندئذ ينبغي منحه لهم اما في الحالة المعاكسة فينبغي حجبه عنهم.

ج- نظرية ويلمان Wellman
تعتبر نظرية ويلمان اكثر النظريات تفائلاً في طائفة نظريات الاختيار او الاستفتاء، ذلك لأنها ترى حتى وان منحنا الحق الأولي بالانفصال فلن ينتج عنه في الواقع عدد كبير من حالات الانفصال.
وينادي ويلمان بما يسميه سير عمل الانفصال التي لا يتناقض مع مشروعية الدولة لأن هذه النظرية في الوقت الذي تسمح فيه بالانفصال فإنها ايضاً تدعو الى تقييمه. وتولي هذه النظرية لمسألة الاعتراف بالددولة أهمية ملحوظة بسبب الوظائف التي تستطيع الدولة وحدها أن تقوم بها مثل تقديم الأمن الى المجتمع الخ.
وعليه ترى هذه النظرية ان يتم رسم حدود الدولة على نحو يتصف بعدم عرقلة وظائف الدولة، فتؤكد أنه لا يوجد حق للمواطنين بأن يتحرروا من الاكراه السياسي عندما تترك هذه المطالبة الآخرين يعيشون في ظل عدم الاستقرار السياسي، وترى ان المجتمع السياسي هو المكان الذي يستطيع فيه الناس العيش بأمان والهروب من مخاطر التعيش على الطبيعة المتوحشة.
وتشدد هذه النظرية على عدم قدرة الدول على القيام بوظائفها إلا في ارض محددة. ولكن لا يعني هذا بأنها تقوم على اساس رضى الناس او على حرية الارتباط بالدولة، بل أن هذه النظرية تستند على في جوهرها على اساس ضرورة القيام بوظائف الدولة.وهكذا يرى ويلمان انه يجب ان لا يؤدي الأخذ بتقريرلمصير الى عرقلة الدولة عن القيام بوظائفها.
ولا تحصر هذه النظرية تقرير المصير والانفصال بالشعوب فقط بل تمد نطاقهما بحيث تجعلهما يشملان ايضاً الجماعات التي لا تشكل شعباً وذلك إذا ارادت هذه الجماعات الانفصال ولكن بواسطة تنظيم الاستفتاء وان نتيجته يجب أن تظهر بأن هناك اغلبية تريده وتؤيده.

2- النظريات المختلطة
تتميز هذه النظريات بأنها تستمد عناصرها من من مختلف النظريات وخاصة من نظريات التقرير الوطني للمصير ونظريات الاختيار او الاستفتاء. وتتفرع هذه النظريات الى نظرية مارجريت مور ونظرية كل من افياشي مارجليت وجوزيف راز على النحو التالي:-

أ‌- نظرية مارجريت مور Margret Moore

تركز هذه النظرية على وجوب ان يتوافق الانفصال مع المبادىء الديموقراطية، أي بعبارة اخرى انها تدعو الجماعة الى تنظيم الاستفتاء لتقريره. وترى هذه النظرية بأنه يجب تحديد هذه الجماعة الاقليمية التي ستمارس حق الانفصال ، وذلك بسيب عدم رسم الوحدات الادارية للدولة على الاساس العرقي بل على اساس تحقيق اغراض متنوعة. وبهدذا الصدد تنادي هذه النظرية بسيادة المبدأ القومي في رسم تلك الحدود. وهكذا فإنها تؤكدعلى أن " في الحالات التي توجد فيها اغلبية قومية قادرة على السيطرة على الدولة الجديدة فلا يكون يومئذ لمبدأ الحدود الاقليمية القوة المعنوية لأن القوة المشروعة تصبح حينئذ لأولئك الاشخاص الذين ترفض طموحاتهم بحجة تلك الحدود"
وترى أن الجماعة القومية التي يتركز وجودها في اقليم او ارض معينة يكون لها حق التقرير الوطني لمصيرها بواسطة الاستفتاء وانها يمكن لها عندئذ تكوين دولة خاصة بها. بل ان هذه النظرية تتطرق الى الحالة التي يوجد فيها اكثر من شعب على نفس الاقليم او الارض وهنا تنادي هذه النظرية بحق هذه الشعوب التي تشكل الاقلية في هذا الاقليم او الارض في تقرير مصيرها ولكن بشرط ان لا يكون لها حق الانفصال عن الدولة الجديدة.
ب‌- نظرية افياشي مارجليت وجوزيف راز Aviachi Margalit and Joseph Raz
لا تتطرق هذه النظرية الى الشعوب بل ينصب تركيزها على الافراد الذين يشكلون هذه الجماعات. فينبغي أن تكون لنلك الجماعات الخصائص المشتركة التالية لتقريرحقها بالانفصال:-
ان تغطي الخصائص المشتركة مجالات متعددة هامة لحياتها كوجود ثقافة مشتركة تجمع بين اعضائها ، وان يكون الانتماء للجماعة عن طريق الاعتراف المتبادل بين اعضائها الذي لا يتحقق بالمعرفة الشخصية لكل من اعضائها بل يتم من خلال امتلاكهم للخصاص العامة للجماعة.
وتضع هده النظرية خمسة شروط ترى ضرورة توافرها في الجماعة حتى تصبح مؤهلة لحق الانفصال و هي :
1- أن تؤيد الانفصال اغلبية كاسحة ،
2- ان لا يؤدي تكوين الدولة الجديدة الى خلق مشكلة كبيرة،
3- أن يضع بعين الاعتبار تحقيق ازدهار الجماعة واحترامها،
4- أن تحترم حقوق جميع السكان القاطنين في الدولة الجديدة،
5- تجنب او على القل التقليل من الإضرار بمصالح الدول الأخرى.

ثانيا: نظريات الانفصال علاج او ملاذ اخير

تصب هذه النظريات جل اهتمامها على المظالم التي تكون قد ارتكبت في الماضي على احدى الجماعات، وتنقسم الى نظرية انتوني بيرش ونظرية بوكانان.
1- نظرية انتوني بيرش Antony Birch
يرى بيرش ان الديموقراطية الليبرالية لا تستتبع الانفصال، لأن مبادىء الديموقراطية والليبرالية تكمن في الاجراءات العادلة التي تضمن الوصول الى قرارات جماعية لسياسات الحكم.
ويكون الانفصال في رأي بيرش مبرراً في حالة الالحاق او الضم القسري للاقليم او الارض، كما يكون مبرراً عندما تفشل الحكومة بصورة دائمة و شنيعة في حماية حقوق بعض المناطق وفرض الأمن فيها وان لا تتم حماية المصالح السياسية والاقتصادية لتلك المناطق، عن طريق تجاهلها او الانحياز ضدها أو عندما تتجاهل الحكومة الاتفاقيات المعقودة مع هذه المناطق حول حماية مصالحهم الاساسية والتي تجد فيه الاقلية نفسها مغلوبة على امرها بتصويت الاغلبية ضدها.
فكل ما ذكر اعلاه من خصائص يجعل نظرية بيرش نظرية للانفصال كعلاج او ملاذ اخيروإن كان بيرش قد ضمّن نظريته شرطاً يقضي بأن تصوت اغلبية الناس على الإنفصال وهو ما يضعها في مصاف النظريات المختلطة بين نظرية الانفصال كحل او علاج او ملاذ اخير وبين نظريات الاختيار.


2- نظرية بوكانان Buchanan
يرى بوكانان ان الانفصال يتقرر للجماعات التي يتم خرق حقوقها الاساسية المتعلقة بحقوق الانسان ولكن شريطة ان يكون الانفصال كحل او علاج او ملاذ اخير لها. وامثلة ذلك ضم الاقاليم او الاراضي العائدة للجماعات بصورة غير مشروعة الى الدولة او خرق الاتفاقات المعقودة معها حول الحكم الذاتي المستقل.
وتنصب فكرة بوكانان الاساسية حول وجود مبرر اخلاقي للافراد بالدفاع عن حقوقهم الاساسية المرتبطة بحقوق الانسان. فعندما لا يوجد امامهم من سبيل لوقف هذه المظالم يكون الانفصال عندئذ هو الملاذ الاخير والحل الناجع لهم لوقف تلك المظالم عن كاهلهم لأنه يصبح عندئذ مبرر على الصعيد الاخلاقي، وانه يصبح اجراءاً مشروعاً نتيجة لفشل الدولة في توفيرحماية حقوقهم الانسانية.
ويرى بوكانان ان الاتفاقيات التي تعقدها الاقاليم مع الدولة هي السبيل المعتاد لأن تجسد رد الحكومة على الضغوط التي تمارسها الاقلية للحصول لى المزيد من الاستقلال. ولكن عندما تخرق هذه الاتفاقيات من قبل الحكومة فيؤدي تصرفها هذا بالاقلية الى المطالبة بالانفصال الذي تقوم الحكومة بقمعه بصورة وحشية. وهنا تبرز اهمية الحاجة الى وجود مراقبة دولية على عملية الانفصال لتقرير وجود او عدم وجود خطأ ارتكبته الحكومة ضد جماعة الاقلية يبرر بقوة إنفصالها.
ويجادل انصار هذه النظرية بضرورة القيام بترتيبات للانفصال فإذا قمعتها الحكومة باستخدام القوة ضد الحركة الانفصالية فيضيف هذا القمع الحكومي قوة لمطالب الاقلية لأنه عندئذ يتم التأكد بوضوح من خرق حقوق الاقلية الامر اذي يبررانفصالها.
وهكذا نجد هذه النظرية تربط بين الاعتبارات الاخلاقية ومتطلبات العدالة واعتبارات الأمن والاستقرار.
وفي الاخير نلاحظ بأن جميع نظريات الانفصال تحتوي على عيوب ومثالب ونقاط ضعف لم نحبذ التطرق لها لأن الشعوب التي نجحت في تحقيق انفصالها قلما اعتمدت على افكار مستمدة من نظرية واحدة بل تبني مواقفها على عناصر متعددة من عدة نظريات ترى فائدتها واهميتها في تحقيق مطلبها بتكوين دول خاصة بها.

عضو المحكمة العليا عدن سابق
وكيل وزارة العدل صنعاء سابقا
كالجري – كندا
11 يناير 2018