آخر تحديث :السبت - 20 أبريل 2024 - 09:52 ص

كتابات واقلام


أمي الحبيبة جمالة

الأحد - 24 مارس 2019 - الساعة 08:05 م

سالم الفراص
بقلم: سالم الفراص - ارشيف الكاتب


ـ أمي الحبيبة جمالة..

لم يؤرقني شيء في الحياة أكثر من محاولتي الكتابة عنك وفيك، فكل الكلمات والتعابير التي خطها وتخاطب بها عتاة المفكرين والمتكلمين والشعراء والخطباء وأشهر الحكماء والمتنبئين والمعلمين لا تستطيع أن تحيط بمعاني ومدلولات لحظة من لحظات ليلة قضيتها تنتظرين عودتي، أو تهدهدين مرقدي كي اغفو بأمان.
وكم هي الكتابة مهيضة ومتواضعة ومثيرة للشفقة إذا أريد لها أن تكون إليك ومن اجلك؛ وذلك عندما أجدها تبدو عاجزة فقيرة غير مقنعة تماماً في تناول ووصف ملمح من ملامح تجليات حزنك وفرحك، قيامك وقعودك، ورضاءك وسخطك، اقبالك وصدك، عشقك، حبك، حملك ووضعك.
عندما جاءت الحروف بعدك وركبت العبارات وجرت الصفات وحدثت وأخبرت، وأعادت اكتشاف كل شيء حي وميت، جامد ومتحرك في الوجود لا بل انها زادت وأفاضت عليها مزايا وصفات ثرة وبالغت، محببة فيها تارة وحاطة من شأنها تارة اخرى، إلاَّ انتِ لم تتجرأ على الادعاء بأنها قادرة على ان تلم بشمائلك وان تتعمق في جنبات وجودك وعطائك وأسرار تفردك.
وكم ظل ومازال وسيبقى التردد غالباً عليها، فاضحاً خلوها من ممكنات الوقوف والاطلاع على عالمك المتنوع والخصب، والتأمل فيه.. أحرف وكلمات وصيغ وتعابير مازالت وستبقى تواري خجلها وتضاؤل فعلها وقدرتها على ان تنفذ إلى أعماق بعض ما تصنعه يدك وتتركه آثارك وتنفخ فيه روحك ويغسله سناك ويطهره نقاؤك وفتنة صفاتك.
أحرف وكلمات، كتب ومؤلفات واحصائيات وموثقات ما انفكت تراوح بخشوع عند محاولة الاقتراب منك وسرد حكاياتك، ومهما اظهرت من جزالتها في الوصف فانها تعود معترفة بقصر وتواضع حيلتها.
أمي لقد كان وجودك على سلسلة تعاقب الأمهات محتفظاً بحروفه وكلماته وتعابيره الخاصة به.. وحروف وكلمات غير التي نعرفها ونفني اعمارنا لهثاً وراء الاستفادة من معين معطياتها، حروف وكلمات وسير خالدات معجزات لا تكتب بل تمارس وتحفر في صفحات الوقت واعمار الزمن، تنقش اثراً بعد اثر على وجه الأرض وفي اعماق البشر، تنسج من خيوط الأمل صفحات تفوق مثيلاتها نصاعة وكبراً، ومداد من أحاسيس ومشاعر وايماءات تظل حاضرة مضيئة في صفحة الوقت والزمن وما بقيت الحياة على الأرض.
ـ أمي الحبيبة جمالة..
لكم أنا بحاجة إلى أن أطوي صفحات دفاتري وأكمم أفواه اقلامي وارحل في خلواتي التي أحاول ان استرجع فيها ملامح وتقاطيع وجهك، أن أتوسد بعض أطراف جسدك، أن أجلس اراقب انهماكك في صنع القهوة وانضاج اقراص الخبز.
كما أنا بحاجة اليوم ان أعود طفلاً يمسك بأذيال اثوابك متتبعاً خطواتك الحذرة، وكم أتشوق إلى أن احظى بواحدة من انحناءاتك السخية لتلتقطيني من على وجه الأرض مسلمة جسدي صدرك لا يشغلك اي شيء مهما عظم عن إعارتي جل اهتمامك وتمسكك بي وخوفك عليَّ.