آخر تحديث :السبت - 20 أبريل 2024 - 03:36 م

كتابات واقلام


بالنخبة.. تنجح الأمم أو تفشل

الأربعاء - 19 فبراير 2020 - الساعة 04:40 م

خالد لقمان
بقلم: خالد لقمان - ارشيف الكاتب


كتاب (لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والإزدهار والفقر) الصادر في عام 2012, والذي أستغرق مؤلفاه الأمريكيان جيمس روبنسون أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد, ودارون عاصم أوغلو أستاذ الإقتصاد بمعهد ماساتشوستس 15 عاماً من البحث خلص إلى أنه حتى يحصل التغييرالإيجابي في دولة ما لا بد من دخول هذه الدولة في منعطف حرج critical juncture (حرب, مجاعة, وباء, إنهيار سياسي, تغيير نظام حكم ..إلخ) تخرج منه الدولة والنظام بشكل مختلف تسيطر فيه نخبة قوية على الوضع السياسي والإقتصادي وتتبنى بعد المنعطف الحرج مفاهيم الحرية والشراكة السياسية والإقتصادية وتأسيس دور مؤسسات الدولة, وتمنع ممارسات النخب الإستخراجية extractive eliteالتي تستنزف ثروات البلد لصالح مجموعة صغيرة مسيطرة. أستنتج المؤلفان أن جميع أنظمة الدول تبدأ -بشكل أو بآخر- بصورة مركزية يسيطر على السلطة فيها نخبة صغيرة تصبح المتحكمة بسياسة وإقتصاد الدولة وخلصا إلى أن أي توجهات وممارسات تتبناها هذه النخبة في البداية, تؤثر على الأمة وتبقى معها لقرون طويلة.

ينفي الباحثان بعد مقارنات كثيرة أن تكون الجغرافيا أو التاريخ أو الدين أو جهل النخبة الحاكمة أو حتى الثروات هي الأسباب الأهم في فشل الأمم أو نجاحها. يستعرض الكتاب مقارنات بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية التي تشابهت بدايةً في الدين والجغرافيا والتاريخ وأختلفتا فقط في توجه النخب التي حكمت البلدان بعد منعطف حرج. نخبة قررت إنشاء دولة مركزية شيوعية عسكرية ونخبة ركزت على التعليم والمؤسسات والشراكة السياسية والإقتصادية. شملت نفس المقارنة دول أوروبا الشرقية وأوربا الغربية, والولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا اللاتينية, والمدن في حضارة المايا، والامبراطورية الرومانية، ومدينة البندقية في القرون الوسطى، والإتحاد السوفييتي وجمهورياته فيما بعد, والدولة العثمانية ومدينة نوغاليس التي يقع نصفها المتأخر في المكسيك ونصفها الآخر المتقدم في الولايات المتحدة الأمريكية, الفرق يكمن في توجه النخبة. فمثلاً, فشلت دول تتصدر قائمة مصدري الثروات المعدنية في العالم ونجحت دول تستورد معظم إحتياجاتها من النفط والغاز, توجه النخب الحاكمة كان السبب الأهم في هذه النتائج.

وهناك مثال هام من أفريقيا ناقشه الكتاب وهو دولة بوتسوانا التي رغم وقوعها وسط دول لا تتصف بالنجاح اليوم إلا أنها تنعم بإستقرار ونمو إقتصادي مستمر منذ الإستقلال بسبب توجه نخبتها منذ البداية نحو إنشاء مؤسسات سياسية وإقتصادية شاملة بعيدة عن ممارسات النخب الإستخراجية وذلك على الرغم من أن بوتسوانا أمتلكت (فقط) عند الإستقال 12 كيلومتر من الطرق المعبدة و100 خريج ثانوية عامة و22 خريج جامعي وكانت محاطة بأنظمة حكم معادية يحكمها عنصريين بيض من الطبيعي أن يحاولوا إفشال تجربة مجاورة لهم يحكمها السود. وعند ظهور الماس في بوتسوانا في السبعينيات لم يؤدي ذلك إلى حرب أهلية وإنقلابات عسكرية بل ساهم في تعزيز البنية التحتية والنمو الإقتصادي والإستقرار السياسي. ساهمت نخبة بوتسوانا (قادتها الثلاثة) منذ الإستقلال في التأصيل للحلقة الحميدة التي تستمر في التحسين ذاتياً. في المقابل, وفي أفريقيا أيضاً, لا تتوفر في دولة الصومال اليوم نخبة قوية واحدة تسيطر على البلاد كلها ولذلك فلا يستطيع أحد أن يحدد التوجه المستقبلي للأمة هناك.

شعوب الدول العربية الجمهورية اليوم هي الأكثر معاناة في المنطقة, ففي الدول العربية في مرحلة ما بعد الإستقلال, وخصوصاً في الأنظمة الجمهورية, وككثير من الدول غير العربية التي أستقلت في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية, أسست النخب لممارسات إقصائية وإقتصاد إحتكاري منذ البداية ولم تنتقل إلى دولة المؤسسات بعدها. أنقسمت الجمهوريات العربية بين أنظمة الحزب الواحد أو حكم الجيش أو خليط مشوه من الإثنين, وإجمالاً تسببت هذه النخب في الوضع السياسي والإقتصادي والإجتماعي الذي بقت فيه شعوبها لعقود, وأصبحت نتائجه جلية اليوم. إذ أسست تلك النخب لممارسات سياسية مركزية أدت إلى ممارسات إقتصادية مركزية أما منعت التطور أو سمحت بإستشراء الفساد وأنتجت وتساهلت مع ممارسات النخب الإستخراجية. إختلف الأمر قليلاً في الأنظمة العربية الملكية حيث سمحت معظمها بقدر أكبر من الحرية الإقتصادية وسمح بعضها بسهولة الوصول إلى الحاكم والتأثير في إتخاذه للقرار إتباعاً لعادات قبلية سبقت تأسيس تلك الدول ولهذا -وبقدر من الإختزال المخل- فأن وضع دولة نفطية ملكية أفضل اليوم من وضع دولة نفطية جمهورية.

بعد إنتصار علي عبدالله صالح وحلفاءه في حرب 1994 كان صالح أمام فرصة تاريخية لتغيير حال البلد والأمة, إلا أنه قام فقط بتوسيع المساحة الجغرافية والثروات المتوفرة للنخبة الإستخراجية في نظام الجمهورية العربية اليمنية, ووسع النخبه نفسها بإضافة أعضاء ثانويين من النخبة الجنوبية. ساهمت الوفرة في المساحة الجغرافية والإقتصادية في إنتفاخ النخبة الإستخراجية عدداً وعدة وأصبحت قبضتها أكثر قوة وخوفها من خسارة المكاسب أكبر. أنعكست هذه القبضة والخوف على كل الممارسات السياسية والإقتصادية للنخبة. مثلاً, مكّن صالح المكون الإسلاموي/الجهادي/الإخواني في نظام حكمه من الجنوب لفترة قصيرة بعد الحرب, وكمثال رمزي لممارسة النخبة, قرر هذا المكون هدم الاضرحة في المساجد. كان من الممكن مثلاً, تأسيساً لدولة المؤسسات ولحكم القانون أن يستغل هذا المكون وجوده في البرلمان لإستصدار قوانين في هذا الشأن, لكنه فضل أن يتجه للتنفيذ الفوري في حالة أصلت لتغييب القانون وتهميش المؤسسات. كمثال آخر قام عبدالله بن حسين الأحمر في التحكيم في قضية إقتصادية قانوية بمليارات الريالات كانت منظورة أمام القضاء.

بعد إقالة الرئيس اليمني الأسبق علي عبدالله صالح, أصل الرئيس عبدربه منصور هادي لممارسات سياسية مختلفة, بداية, أسس لتعيين مسؤولي الدولة بعيداً عن الكفاءة والخبرة ,بعيداً حتى عن الخبرة الحزبية التي كانت من شروط صالح, فالكثير من الشباب المشاركين في الحوار الوطني أنتهى بهم الأمر مسؤولين في أجهزة الدولة, في وزارات خدمية هامة وفي السلك الدبلوماسي, الكثير منهم لم يمارس أي وظيفة خاصة أو حكومية قبل هذا التعيين. تأثير هذه التعيينات أصبح واضحاً في القطاعات الخدمية وفي آداء السلك الدبلوماسي, ويتم تكريمهم وترقيتهم أيضا, سيعاني اليمنيين ونظام هادي من هذه الممارسات لفترة طويلة. كما أسس هادي لإختلاط المهام والتخصصات, فوزير الداخلية خريج كلية الزراعة ووزير الزراعة خريج كلية الشرطة يشارك في إجتماع لوزراء الداخلية, يتحدث وزير النقل فقط تقريباً عن مخرجات الحوار لا عن النقل ويتحدث وكيل السياحة عن المواجهات العسكرية ومستشار الإعلام عن الفساد وهكذا دواليك. وفي دلالة أخرى على تأثير ممارسات النخبة الحاكمة/المسيطرة, تضاعفت في نظام حكم الرئيس هادي التعيينات العائلية التي أسس لها علي عبدالله صالح وشملت نخبة نظام حكمه.

جنوباً, وبعد طرد قوات الحوثيين/صالح منه, توفر للجنوبيين قدر من السيطرة على الأرض, سيطرة أحاطت بها الكثير من القيود والتحديات, أولاً, لم تشمل هذه السيطرة كل الأرض الجنوبية, ثانياً, لم تشمل هذه السيطرة مصادر الثروات, ثالثاً, أحتفظ علي محسن الأحمر وريث النخبة الإستخراجية في نظام صالح بتواجد عسكري وإستخباري كثيف في الجنوب, رابعاً, أصبحت المنطقة غير المستقرة سياسياً مركز جذب للجماعات الإرهابية, خامساً, كانت لدول الجوار أجندات مختلفة, سادساً, نجحت النخبة الإستخراجية في إستجرار تقسيمات ما قبل 1967 وما بعد 1986, سابعاً, لم تمتلك القوات الجنوبية نفس المستوى من السلاح الثقيل الذي أمتلكته قوات علي محسن الأحمر/الشرعية. ومع ذلك فقد أدت مقاومة الجنوبيين لقوات الحوثيين/صالح وما سبقها من ممارسات إحتلالية منذ حرب 1994 وما سبقتها من سيطرة على الأرض في بروز نخبة سياسية وعسكرية جنوبية, وهي نخبة مؤثرة وتشكل الواجهة الأهم للجنوب حالياً على الرغم مم يحيطها من قيود.

أسس المجلس الإنتقالي الجنوبي -كنخبة الأمر الواقع في الجنوب- لسقف من حرية التعبير والإعلام غير متوفر في مناطق سيطرة الإصلاح/الشرعية أو مناطق سيطرة الحوثيين, وهذه إيجابية تحسب للمجلس إذ ينتقد صحفيين وإعلاميين المجلس الإنتقالي الجنوبي والإمارات العربية المتحدة من داخل عدن بينما يستحيل أن ينتقد إعلامي علي محسن الأحمر من مأرب أو قاسم سليماني من صنعاء. وأسس المجلس الإنتقالي الجنوبي لقدر كبير من التسامح في الداخل, توقع الكثير وربما ساهموا في تأجيج نزعات مناطقية خطيرة أثبت المجلس قدرته على التعامل معها بحكمة حتى أثناء المواجهات العسكرية. أسس المجلس لسياسة الإنفتاح والعقلانية في التعامل مع دول الجوار وهي ميزة إفتقدها الجنوب لفترة طويلة. في الجانب الآخر أسس المجلس الإنتقالي لتعدد الرؤوس في القوات العسكرية, ولضبابية مساحة مسؤولية قوات الجيش وقوات الشرطة, ساهم هذا التعدد وعدم الوضوح في غياب المحاسبة على ممارسات المجموعات العسكرية, في ملف الأراضي مثلاً.

يقف المجلس الإنتقالي الجنوبي اليوم -بصفته النخبة السياسية الأكثر سيطرة في الجنوب- أمام مسؤولية كبيرة, فإذا كتب النجاح لسعي الجنوبيين في الإنفصال/الإستقلال/إستعادة الدولة, فأن الدولة الجنوبية القادمة ستحمل معها لعقود نتائج التوجه السياسي والإقتصادي والإجتماعي للمجلس الإنتقالي الجنوبي خصوصاً على مستوى سيادة القانون ودولة المؤسسات. نعم, يواجه المجلس الإنتقالي الجنوبي تحديات كبيرة اليوم على كل المستويات, على مستوى الخريطة الجنوبية فيم يتعلق بموروث ما قبل 67 وما بعد 86. وعلى مستوى الخريطة اليمنية فيم يتعلق بسيطرة الإصلاح وقوات علي محسن الأحمر على النظام السياسي والثروات, وعلى مستوى الخريطة الإقليمية على مستوى تعدد أجندات وأساليب دول الجوار, وحتى على مستوى الخريطة العالمية في ملف مكافحة الإرهاب والملف الإيراني. لكن التهديد المستقبلي يجب أن يكون في أعلى قائمة المهام. فعلى مستوى تأسيس وإحترام مؤسسات الدولة والممارسات السياسية والوضع الإقتصادي وحرية الإعلام وسيادة القانون, كيف يريد الجنوبيون والمجلس الإنتقالي الجنوبي أن تكون دولتهم القادمة؟