آخر تحديث :الجمعة - 19 أبريل 2024 - 01:21 ص

كتابات واقلام


عدالة الأوبئة وانتهازية الإنسان

الأحد - 05 أبريل 2020 - الساعة 02:18 م

وليد التميمي
بقلم: وليد التميمي - ارشيف الكاتب


تمنحك بعض القراءات ضوءا شارداً نحو المستقبل، لا تتلمس خيوطه إلا وأنت وسط ظلام دامس، في معمعة تجربة صعبة لا تخوض غمارها وحدك وإنما أنت وأفراد أسرتك ومجتمعك ودولتك والكون ككل، كأزمة الفيروس التاجي التي تحاصرنا وقضت مضاجعنا وباتت تهدد البشرية بالانقراض والاقتصاد بالانهيار والنظام العالمي بالتفسخ.
يعد جوزيه ساراماجو الكاتب الروائي البرتغالي، الذي وصف قبل وفاته في عام 2010 بأنه من أعظم الروائيين على قيد الحياة ووحداً من الكتاب القلائل الذي يفتحون أمامك كوة صغيرة نحو الغد لا تفصلك عن الحاضر وتظل تشدك إلى الماضي بكل تفاصيله.
ولد سارامجو في قرية قريبة من لشبونة عام 1922، اشتهر خلال مسيرتة الحافلة بالإبداع برواية العمى، وكان قبل أن ينغمس في مجال الكتابة الروائية، مجرد شاب عادي، عجز والده الشرطي عن تأمين تكاليف تعليمه، اشتغل بعد أن شب عن الطوق كميكانيكي سيارات، لكن شغفه بالقراءة مهد الطريق أمامه كي يحترف الصحافة والترجمة، التي مكنته من سد رمقة وتطوير موهبتة في كتابة الرواية.
تحمل روايته العمى، بذور يمكن إسقاطها على الأزمة العالمية الحالية مع وباء كورونا وكيفية مواجهتها ومحاولة التنصل من مسؤوليتها.
الرواية التي نشرت عام 1995 تحكى معاناة شخص أصيب بالعمى فجأة، وما أن فحصه الطبيب حتى أصيب هو أيضا بالعمى وسرعان ما انتشر الوباء. زوجة الأخير كانت هي الوحيدة في الرواية التي نجت من الوباء.
كان لزاماً حينها وضع العميان في حجر صحي، عزلهم عن بقية الناس الذين يتمتعون بنعمة البصر، وضعت مجموعة العميان الأولى فى العنبر الأول في محجر تحت حماية الجيش.. شيئا فشيئا بدأت تتكيف مع مصابها الجلل ويعيش أفراد المجموعة معا كعائلة واحدة.
تحول العمى إلى وباء وفتح أبواب عنبر آخر، ثم عنبر ثالث سكنته عصابة مسلحة، كان أفرادها يجيدون استخدام السلاح وهم عمي، تحكمت العصابة فى الطعام والشراب والدواء، وتوسع نفوذها بعد أن استغلت سوء التدبير الحكومى.
بدأ الطمع ينشب أظافره في العصابة التي فرضت على باقى العنابر تقديم ما لدى الرجال والنساء من مقتنيات ثمنية وإلا حرموا من وسائل الحياة، سلبت العصابة كل ما يمتلكونه.. وبعد أن أصبح العميان صفر اليدين بدأت العصابة فى التجرؤ على مساومة الرجال بالنساء، وإلا ماتوا جميعا من الجوع والعطش والمرض.
استسلم الرجال بعد تعرضهم لبدايات حصار خانق، وأرسلت النساء إلى عنبر العصابة فى طابور طويل وكأنهن أبقار يننتظرن أدوراهن للذبح. وانتقى زعيم العصابة لنفسه باللمس اثنتين.. كانت زوجة الطبيب المبصرة واحدة منهما... استجمعت قواها وتمكنت من الحصول على السلاح وقتلت به الرجل.
قادت زوجة الطبيب تمرداً من العميان ضد العصابة، انتهى بحرق المبنى، كان خيار العميان الأخير الدخول في صدام مع الحكومة التي عجزت عن حفظ النظام، الحكومة التي كان يفترض أن تصون القانون ولا تسهل انهياره وتسهم بفسادها في تدهور مستوى الخدمات وإبطال مفعول الاستقرار وإذكاء نار الطبيعة الحيوانية الشرسة لدى غالبية البشر.
تجسد الرواية ماسأة الضعفاء في عالم يسوده الأقوياء، صحيح أنها لم تورد أسماء للأماكن أو الشخصيات واكتفت بصفاتهم، إلا أن المؤلف قدم من خلالها تصوره عن دولة تروج شعارات زائفة عن الحرية والمساواة والعدالة، ورجالاتها هم أول من يختالون على النظام ويتحايلون على القانون، دولة معادن حكامها لا تظهر على حقيقتها إلا عندما يكون كيانها عرضة لغضب الطبيعة أو مهدداً من وباء مجهول، يعري أخلاقها ويفضح انتهازيتها ووسط معمعمة الانهيار الجماعي، يبقي الخلاص في التضامن الإنساني، الوحدة المجتمعية لكوكب الأرض التي فقدناها عندما اندمج البشر في قرية كونية سلختهم عن أدميتهم وعمقت خلافاتهم وشدتهم إلى دوامة كراهية، حولت بعضهم إلى حيوانات كالضباع تحكمهم الغرائز وتحركهم رياح الشهوات، وجعلتهم يدمنون السلطة، ويمارسون صنوف القتل والنهب والاغتصاب، ينغمسون في ماراثون دموي ظنا بأنهم سيخلدون في الأرض متناسين أن القوي سيصرعه الأقوى منه... ومالك المال الجشع والطمع شريك السلطة في كل جرائمها وموبقاتها، لن تجود عليه ثروته الطائلة بلقمة خبز وشربة ماء حينما تنتشر الأوبئة التي تساوى بين الجميع الذين إذا لم يضعوا أيديهم بأياد بعض فإنهم سينتهون فى مقابر جماعية إما بفعل الفيروسات أو بأسلحة العصابات أو كلاهما.