آخر تحديث :الثلاثاء - 16 أبريل 2024 - 11:03 م

كتابات واقلام


الشائعات في اليمن... حضرموت في عين العاصفة

السبت - 18 أبريل 2020 - الساعة 06:37 م

وليد التميمي
بقلم: وليد التميمي - ارشيف الكاتب


سهولة التدوين في مواقع التواصل الاجتماعي، وبساطة إنشاء الحسابات على منصاته المتعددة، باسماء مستعارة أو وهمية صبت الزيت على نار الشائعات القديمة قدم البشرية جمعاء.
تجد الشائعات مسارب للانتشار في كل الأزمنة لكنها في الأزمات تكبر أثناء تناقلها ككرة الثلج، وتسري كالنار في الهشيم، وعادة ما تصدر بطرق موظفة ومدروسة، من قبل من صاغها لتحقيق أهداف مختلفة.
في الحروب توظف الإشاعات لخلخلة الجبهة الداخلية للعدو، ولإضعاف الروح المعنوية للناس، لاقلاقهم بثنائية الخوف والذعر من خلال رسم دوائر حمراء على حدث ما يتم إما تحريفه بطمس معظم حقائقه أو إغراقة بمعلومات كاذبة أو إشباعه بالمبالغات الخيالية.
نحن كثيراً ما نتداول لفظة الشائعة لكن معظمنا يجهل بأنها أنواع حسب تصنيفات علمية، فهناك الشائعة التعبيرية التي يؤلفها الأفراد عن أنفسهم، ويشبوعونها بأحلامهم، وينتشون بالراحة وهم يرددونها للهروب من واقعهم المرير، وطمر إخفاقاتهم تحت أسوار تحميهم من خطر يتهددهم بين فنية وأخرى.
الشائعة التفسيرية يجترحها الناس الذين تعرضوا لصدمة حدث مفاجئ، يجتهدون في محاولة تفسيره، وقد يربطونها بقصص خيالية من صنعهم أو مستلمهة من التراث الشعبي.
الشائعة التبريرية هي موجهة في الغالب، بمعنى أنها شائعة مخططة في أسلوب إذاعتها ومهندسة فنياً لتحوم حول قرار قد يكون حكومي أو رسمي، يحشد أنظار الجمهور نحو زاوية محددة تسيطر على الرأي العام وتدفع بغالبيته إلى الانسياق خلف مصدرها والاعتراف بحكمة مشرعه.
الإشاعات التدميرية، تهدف إلى تحطيم الصورة الذهنية لشخص حقيقي أو معنوي أو كيان مجتمعي أو حزب سياسي أو نظام حكم، من أجل مصلحة خصومهم ممن يحاولون مزاحمتهم على السلطة أو اقتلاعهم منها.
الإشاعات العلاجية هي من أقصر الشائعات سرياناً، تركيبها يتم من خلال نشر مصفوفة اخبار وهمية، منسجمة مع رغبات الجمهور، تتماهى مع تطلعاتهم، وهي مختصة بـ"علاج الإحباط واليأس"، الذي قد يعانونه في الأزمات والحروب وما ينجم عنها من تأثيرات مباشرة على صحتهم الجسدية والنفسية.
ازدهار سوق الشائعات في الحروب ينسحب أيضاً على الكوارث الطبيعية بما فيها الأوبئة والأمراض، وفي العالم الذي يضج اليوم بزلزال فيروس "كورونا" يبدو انقسام الكرة الأرضية على أكثر من معسكر وهشاشة معظم الدول داخلياً وانشغالها بأزمات سياسية واقتصادية مسرحاً لسيولة في الشائعات وتناسلها.
كم من شائعة راجت مع انتشار الوباء، عالمياً ومحلياً؟ الكثير للأسف ومعظمها مهجن بأنواع الشائعات. فالشائعة التعبيرية لعدم أو لتأخر تفشي الوباء في مناطق عزاها أفراد إلى المناعة التي يتمتعون بها، الحصانة الدينية التي تلفهم. والشائعة التفسيرية وجدت بيئتها في الأجواء الحارة والرطبة غير الملائمة لتمدد الفيروس.
الشائعة التبريرية تدفقت عادة من أطر رسمية وحواضن حكومية، بررت عدم القدرة على مجاراة "نزق" الفيروس لأنه حطم تحصينات دفاعية لدول كبرى، ومجابهته تقتضي التفاف شعبي، انصياع جماهيري لسلطة الدولة وقرارتها، عدم مشاغلتها بالشائعات التي تصنفها بأن "تدميرية" تستمد قوتها بمدى ملاءمتها للتركيبة النفسية للمتلقي، وهي لذلك تكون انتقائية، لأنها تؤثر بمجتمع بعينه كونها تتفق مع عواطفه ورموزه وثقافته واحتياجاته وصعوباته ومشكلاته.
لو أردنا تدوير العدسة على الشائعات التي انتشت في اليمن وحضرموت عموماً بعد الإعلان عن تسجيل أول إصابة بفيروس كورونا، سنجد أننا أمام فائض من الشائعات المكتوبة والمنطوقة وحتى المرئية.
بدأت الشائعة ترسم حول أسم الضحية، مهنته، كيف أصيب بالفيروس، تحملقت حول عدد الأشخاص الذين خالطوه بعد العدوى، اندفعت الشائعات في مجرى عبثي يقلق الناس ولا يهديهم، يرفع منسوب توترهم ولا يخفضه أو على الأقل يحفظ مستواه.
نجاح أولي للسلطة المحلية بحضرموت والكادر الطبي الذي فحص الحالة، تجلى من خلال الحفاظ على سرية الحالة المرضية، عدم الإفشاء باسمها، والتفرغ لاحقاً للإجراءات ما بعد الرصد، التوعوية التي سبقت فرض الحظر، لتمتين جبهة الأطباء الدرع الأول في التصدي للفيروس، وأخيرا افتتاح مركز الحميات والأوبئة ورعاية المريض بداخله.
في غمرة الانشغال في معركة "حجر" الفيروس، ظلت الشائعات تجد تربة خصبة للحصاد، نزعت أولاً باتجاه التشكيك في مصداقية الفحص، مقطع مرئي قديم من قناة محلية يزف بشرى خلو اليمن وحضرموت من الوباء تم تسويقه على أنه اني. تمت ملاحقة الإحصائيات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، التهافت على معلومة أنه تم حذف أسم اليمن من لائحة الإصابات، انتقلنا من مرحلة التشكيك إلى التكذيب كلية.
سحب السماء الملبدة بغيوم الشائعات، أمطرت نكات هي الأخرى تعد بمثابة شائعة كاريكاتورية، تستمد زخمها من العناصر الأسطورية والتاريخية والعرقية والدينية والاجتماعية.
تتغلغل الشائعات بلبوس النكات في المجتمع بسلاسة، تنتقل بخفة، تلوكها الألسن بمرح يجتاز الحواجز العقلانية والنفسية، وينسف العقبات التي قد تحول دون تعميمها وتضيف قوة للشائعة حتى يطول أمدها وتترسخ في الأذهان وتسمح بذلك بإعادة توظيفها في أكثر من حدث طارئ وإسقاطها على مستجد ظرفي في أكثر من بلد.
لم تجد السلطة المحلية في حضرموت من خيار لكبح الشائعات سوى إنشاء غرفة لرصدها وتشكيل فريق قانوني وحقوقي لتفسير عواقب جرائم النشر، بعد أن نصب من أطلقوا الشائعات سيرك لاستهدافها ووجهت سهامها إلى شخص المحافظ فرج سالمين البحسني.
أول المحاذير التي لم تراعيها السلطة هي أنها قد تحرض مفتعلي الشائعات على تغيير استراتيجيتهم، الخطة (ب) البديلة في قاموس مدمني الشائعات أو الجيش الإلكتروني المنظم لإطلاقها هي الاسماء المستعارة، الحسابات الوهمية، الصفحات الزائفة، التي كانت أولى إصدارتها شائعة تعميم من المحافظ بإلغاء الحظر كلياً وعودة الحياة إلى طبيعتها وافتتاح المدارس والمساجد في حضرموت.
من خلال تتبع التطور التاريخي للشائعات تبدو قوتها في أنها تكمن أقدم وسائل الإعلام على الإطلاق. في كتاب "الشائعات.. الوسيلة الإعلامية الأقدم في العالم"، يرى المؤلف جان نويل كابفيري، بأنه على الرغم من تكاثر الوسائل الإعلامية، لا تزال العامة تستقي الكثير من معلوماتها من المحادثات الشفوية وفي عصر سادته الكتابة شكلت مواقع التواصل الاجتماعي نقاط حية لخلق الشائعات وإرسالها وتعميمها. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا تتملك الناس الرغبة في ترداد الشائعة على مسامع الآخرين؟ أو تدويرها بكبسات زر معدودة لتلف الكرة الأرضة وتسبح في الفضاء.

إن جهل البعض أو خدمتهم لأجندة مشبوهة يقف خلفها جيش إلكتروني خفي يعد أولى خطوات نقل الشائعة التي تجد منافذ لتمريرها عندما يتقاعس الإعلاميين والمثقفين، وغيرهم من قادة الرأي من المسؤولين لدحضها، لنسفها بنقل الحقائق لا تغييبها أو إتباع سياسة "التقطير" في نشرها.
فمن المسلمات أن الشائعات لا يمكن لها أن تظهر وتتعاظم وتصمد إلا في غياب الحقائق. إذ قال أحد خبراء الإعلام: "تنتشر الشائعة عند توفر شرطين أساسيين، وهما الأهمية والغموض".
إذا "الحبل السري" لنجاح أي شائعة، كامن في أهميتها والغموض الذي يكتنفها.
لقد حددت دراسة «علم نفس الشائعة» أثناء الحرب العالمية الثانية، التي نشرها عالما النفس، ألبورت وبرستمان في 1945، أهمية الشائعة والشائعة المضادة، في التأثير على معنويات الناس وأفكارهم واتجاهاتهم ومشاعرهم وسلوكهم.
وجد العلماء أن الشائعات تنتشر أكثر في وقت الأزمات، تشبعها الظروف الضاغطة أو المثيرة للقلق بظروف ديموميتها، تسرح بمختلف أنواعها أثناء وقوع الحوادث والحروب والمصائب، ولاحظا أيضاً أنها تلقى اذانا صاغية وأفهام تلتقطها أكثر حين يكون هناك تعتيم إعلامي أو غموض ما.
عرض العلماء في الكتاب معادلة على غرار علم الرياضيات، مفادها أن انتشار الشائعة يساوي أهمية الموضوع المتصل بها، مضروبا في مدى الغموض حوله.
عندما ندقق في رموز المعادلة، سندرك أن تنامي الشائعات في اليمن وحضرموت خاصة بعد دخولها موسوعة الدول التي انتقلت إليها عدوى الفيروس التاجي، تؤججها عدة عناصر متداخلة تتشابك فيها مدخلات الأهمية والغموض، وهذه العناصر هي:
1- وجود أطراف سياسية داخل البلاد وخارجها تحاول إثارة المزيد من القلاقل والأزمات في اليمن نكاية في "التحالف" وبعضها على ما يبدو ضمن نسيج الشرعية يرفع شعارات ويخطط ضدها.
2- استهداف رموز في الحكومة الشرعية لشخص المحافظ البحسني في مخطط يرمي إلى إقالته وإحداث هزة عنيفة في الجبهة الداخلية بالمحافظة.
3- محاولة إفشال قرار المحافظ البحسني بمنع بيع القات في المحافظة بتكثيف الهجوم على شخصه لإجباره على التراجع عن القرار.
4- غياب أو ضعف التنسيق ما بين الحكومة الشرعية والسلطة المحلية في حضرموت ساهم في التخبط بإصدار التصريحات ونفيها تباعاً كما جرى مع تصريح وزير الصحة الذي تم نشره في منصة وعي ثم حذفه سريعاً.
5- تنامي الشائعات حول الوباء في العالم ودول الجوار نقل حمى رواجها إلى داخل المجتمعات المحلية في اليمن.
6- إدامة الغموض في تتبع تطورات الحالة المرضية والأشخاص الذين اختطلوا بها وعدم وجود أجوبة مقنعة لأسئلة بسيطة يتم تدوالها جعل بنية الشائعات تخرج عن نطاق السيطرة.
أخيراً، لا نعتقد بأن وجود غرفة لرصد الشائعات والتلويح بعقاب صانعيها كفيل بوضع حد لتناميها، فالترهيب ومحاولات تكميم الأفواه سيخلق فوضى في مجتمع يفترض أن يتماسك في مواجهة اسوأ الاحتمالات ولا ينشغل في تفسير من يحق محاسبته على نشر معلومة أو تزييفها، إلا إذا كانت السلطة تدرك بأنها قوية بما يكفي لتطبيق القانون على الكل ومحاربة الفساد الذي تتعدد صوره ومظاهره قبل أزمة "كورونا" وأثنائها وما بعدها.