آخر تحديث :السبت - 18 مايو 2024 - 10:40 ص

كتابات واقلام


الشركات عابرة الجنسيات

الإثنين - 10 مايو 2021 - الساعة 02:15 ص

د. وليد عبدالباري قاسم
بقلم: د. وليد عبدالباري قاسم - ارشيف الكاتب



كتبت مقالة قبل حوالي 22 عاماً عن الادارة والشركات متعددة الجنسية في صحيفة الثوري بتاريخ 28/01/1999م العدد (1558) وتحدث حينها عن دور هذه الشركات في الاقتصاد العالمي، وتأثيرها على الاقتصاد الوطني وماهي فوائدها وايجابياتها فقدمت بعض المقترحات حولها وآثار تلك الشركات على البلدان النامية كاليمن.
فدعونا نعود بالذاكرة في سطور الزمن إلى ذلك الماضي المسحور ما قبل 21 عاماً ونحدث بعض معلوماتنا ونعرض بايجاز ما جرى في متغيرات التاريخ والسياسة والاقتصاد . وما كنت أطمح من أحلام بناءة حينها لوطننا الحبيب المثقل اليوم بحطام الحرب واشلاء التشظي من الصراعات التناحرية على السلطة.
يفيدنا المفهوم القاموسي الاقتصادي، بأن الشركة المتعددة القوميات أو ما هو متعارف عليه سابقاً ب متعددة الجنسيات (بالإنجليزية: Multinational Corporation - MNC أو Multinational Enterprise - MNE)، بانها شركة ملكيتها تخضع لسيطرة جنسيات متعددة كما يتولى إدارتها أشخاص من جنسيات متعددة وتمارس نشاطها في بلدان أجنبية متعددة على الرغم من أن إستراتيجياتها وسياساتها وخطط عملها تصمم في مركزها الرئيسي الذي يوجد في دولة معينة تسمى الدولة الأم Home Country، إلا أن نشاطها يتجاوز الحدود الوطنية والإقليمية لهذه الدولة وتتوسع في نشاطها إلى دول أخرى تسمى الدول المضيفة Host Countries. ولكن في مرحلة لاحقة رأت لجنة العشرين، والتي شكلتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة في تقريرها الخاص بنشاط هذا النوع من الشركات إن يتم استخدام كلمة عبر وطني أو قومي(Transnational) بدلا ًمن كلمة متعددة القوميات او الجنسيات Multinational) ( وكلمة شركة (Corporation) بدلاً من كلمة مشروع ( (Enterprise، واتضح بأن هذه الشركات تعتمد في أنشطتها على سوق متعدد الدول، كما أن استراتيجياتها وقراراتها ذات طابع دولي وعالمي، ولهذا فهي تكون شركات عابرة الجنسيات، حيث تتعدى القوميات، ذلك لأنها تتمتع بقدر كبير من حرية تحريك ونقل الموارد ومن ثم عناصر الإنتاج من رأس المال والعمل فضلاً عن المزايا التقنية أي نقل التكنولوجيا بين الدول المختلفة وهي مستقلة في هذا المجال عن القوميات أو فوق القوميات Supra National، وهي بالتالي تساهم ومن خلال تأثيرها في بلورة خصائص وآليات النظام الاقتصادي العالمي الجديد والتأكيد على عالميته وتعد من العوامل الأساسية في ظهور العولمة، ومن أهم سماتها أنها تعدد الأنشطة التي تشتغل فيها دون أدنى رابط بين المنتجات المختلفة. ويرجع السبب الرئيسي الذي دعاها إلى تنويع نشاطها، فهي تستند إلى اعتبار اقتصادي مهم، وهو تعويض الخسارة المحتملة في نشاط معين بأرباح تتحقق من أنشطة أخرى، وأيضاً تعمل هذه الأسواق للسبب ذاته، وتعدد أساليب إنتاجها بحيث إذا ارتفعت قيم أحد عناصر الإنتاج التي يعتمد عليها أسلوب إنتاجي ما يمكن الانتقال إلى أسلوب إنتاجي آخر يعتمد على عنصر إنتاجي ذات ثمن منخفض نسبياً، ومن هنا جاءت تسمية هذه الشركات باسم متعددة الجنسيات.

خصائص الشركات عابرة الجنسيات
تتمتع الشركات عابرة الجنسيات بعدد من الخصائص، وهي:
●ضخامة حجمها، تتميّز هذه الشركات بتمثيلها لكياناتٍ اقتصاديّة عملاقة، ومن المؤشرات التي تدلّ على ضخامةِ حجمها: حجمُ الاستثمارات، وحجم رأس المال، وتنوّع الإنتاج، وارتفاعُ أرقام المبيعات وكذلك الإيرادات، بالإضافة إلى حجم الشبكات التسويقيّة التي تعمل لصالحها، وحجم الإنفاق العالي على البحث والتطوير، وكفاءة الهيكل التنظيميّ والإداريّ.
●التنوّعُ الكبير في الأنشطة، تقومُ سياسة الشركة على تنوّعِ المنتجات التي تخرجُها الشركة بهدفِ تقليل حجم الخسائر لأدنى درجةٍ ممكنة، ففي حالِ حدوث الخسارة في أحدِ المنتجات التي تنتجها هذه الشركات يحدثُ ربحٌ في المنتجاتِ الأخرى، وبالتالي يسهمُ ذلك في تحقيقِ التوازن والربح العالي.
●اتساعُ رقعتِها الجغرافيّة، من أكثر ما يميّزُ هذا النوع من الشركات اتساعُ المساحة الجغرافية التي تغطيها، بحيث توفّر لها هذه الميزة إمكانيّاتٍ هائلة في التسويق، وبالتالي تكون منتجاتها موجّهة لعددٍ كبير من سكّان العالم، ولعلّ استخدامَها التكنولوجيا ووسائلَ الاتصالاتِ الحديثة هو أحدُ العوامل المساعدةِ في انتشارِها.
●إقامةُ التحالفات الاستيراتيجيّة المختلفة؛ بهدف تحقيق مصالحِها الاقتصاديّة المشتركة، وتعزيز قدرتِها التنافسيّة.
●تعبئة المدخرات العالميّة، تنظرُ كلُّ شركة من هذه الشركات إلى العالم كسوقٍ يمكنها تعبئتُه بالموادّ التي تنتجُها.
المزايا الاحتكاريّة، حيث تكون هي الأولى والوحيدةَ والسبّاقة لأيّ نوع من الإنتاج؛ بهدف الحصول على الربح الوفير، وتكمنُ المزايا الاحتكاريّة في كثيرٍ من الأحيان من خلال القدرة على توفير الاحتكار في أحدِ المجالات التالية: التمويل، والإدارة، والتكنولوجيا، وكذلك التسويق.

دور الشركات عابرة الجنسيات
لقد نتج عن التغيرات الإقليمية والدولية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية نظام عالمي جديد بمضامينه وأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والمالية والثقافية والسياسية المبني على اقتصاد السوق وتقليص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي وتنامي دور الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات متعددة الجنسيات حيث أصبحت في أواسط التسعينات (35) ألف شركة تتوزع على الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية واليابان، وفي مستوى هذه الشركات تسيطر (100) شركة الأكبر فيما بينها على معظم الإنتاج العالمي، وتشير بعض التقديرات الحديثة بأن عدد الشركات الأن قد بلغ (65) الف شركة وتمتلك الدول الصناعية المتقدمة (50) الف شركة أي حوالي 77% من مجموع إجمالي الشركات في العالم أما بقية دول العالم فتمتلك أكثر من (15) الف شركة تمثل 13% من مجموع تلك الشركات وقد بلغت حصة الدول النامية منها (92460) شركة تركزت حوالي 65% منها في دول جنوب شرق وشرق أسيا و28% في أمريكا اللاتينية و5% في غرب أسيا و2% في أفريقيا. وقد أكسبت الثورة العلمية والتكنولوجية الحديثة قوة إضافية لهذه الشركات وقدرة على الإنفاق على البحث العلمي. ويتضح من خلال نشاط هذه الشركات أنها قد ساهمت بشكل كبير في تفكيك عملية الإنتاج على الصعيد الدولي التي تتسم بعدم الاستقرار وبقابلية الانقطاع والتي تهربت من أية رقابة أو اتفاقيات ملزمة وأنها نسقت مع المؤسسات المالية والمنظمات الدولية في الدخول إلى الدول النامية ولقد تجسدت ممارسة هذه الشركات في نشاطاتها في الاقتصاد الدولي بنمو دورها في تدويل الاستثمار والإنتاج والخدمات والتجارة والقيم المضافة والمساهمة في تشكيل نظام تجارة دولية حرة والتسريع في نمو أكبر للاستثمار المباشر العالمي والتطور السريع للعولمة المالية وتنامي التأثير على السياسات الاقتصادية للدول والمساهمة في تعميق الفقر في العالم وهجرة الأدمغة وتعميق الفجوة التكنولوجية بين الدول المتقدمة والدول النامية.
تقوم الشركات المتعددة الجنسيات بدور فعال ومؤثر في إحداث الثورة التكنولوجية.أن العالم يعيش اليوم الثورة الصناعية الثالثة، والتي نطلق عليها الثورة العلمية في المعلومات والاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا العالية. ولهذا السبب فان التحدي المطروح أمام البلدان النامية، هو ضرورة تنمية قدراتها على خلق آليات للتعامل مع الشركات المتعددة الجنسيات. أن نقل التكنولوجيا من خلال الشركات عابرة الجنسيات يتأثر بتوجهات الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تقوم به تلك الشركات عبر مناطق العالم المختلفة، ومع الأخذ في الاعتبار العوامل المتعلقة في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، فأن هيكل النظام الاقتصادي العالمي الجديد من منظور تكنولوجي يتأثر بشكل واضح بهيكل الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تقوم به الشركات المتعددة الجنسيات، فهي تقوم بدور فعال ومؤثر في إحداث الثورة التكنولوجية نظراً لما تتمتع به من إمكانيات وموارد بشرية ومادية ضخمة توجه نحو البحوث والتطوير.
استطاعت الشركات عابرة الجنسيات أن تقيم مشاريع لها خاضعة لسيطرتها في واحد أو أكثر من مجموعـة البلدان النفطية وغير النفطية، وأن تستفيد من حرّية التجارة ما بينها لفتح أسواقهـا جميعاً أمام منتوجات هذه المجموعات. وقد أدّى ذلك، في غالبية الحالات، إلى تكامل اقتصادات هذه البلدان مع السوق العالمية في إطار استراتيجية الشركات المذكورة، بدون تحقيق التكامل الاقتصادي ما بين البلدان المذكورة. حصل ذلك تحت تأثير توجيهات التنمية التي طبّقتها البلدان العربية خلال الخمسينات والستينات من هذا القرن، والتي أهملت التنمية الزراعية، وركّزت على التصنيع من أجل التصدير إلى الخارج، معتمدة على استيراد التكنولوجيا الجاهزة من هذه السوق، من دون محاولة تنمية قدراتها التكنولوجية من خلال الاهتمام بالموارد البشرية، من تأهيل وتدريب لها وزيادة الاعتمادات المالية للدراسات ومراكز البحوث، إضافةً إلى توجيه التنمية نحو إشباع الحاجات الأساسية للسكان من تعليم وطبابة وصحّة وسكن. إن دخولنا عصر التكنولوجيا يفرض على بلداننا أن تقوم بإصلاحات تطال كل البنى التحتيّة، مع المحافظة على دور دولة الرعاية في المجتمع بإحلال العدالة الاجتماعية بين كافة فئات الشعب، وكذلك القيام بتحديث القوانين لتفعيل جباية الضرائب، والقيام بتعديل المناهج والبرامج التربوية لتتلاءم مع حاجات العصر، واستخدام نظم الإدارة الحديثة الفعّآلة بهدف ضخ إداراتنا المهترئة بالعقول والخبرات التقنية والمعارف والثقافة العامة، وإدخال المكننة والأجهزة الحديثة إليها لتتمم إنجاز المشاريع.
بالطبع تغير العالم اليوم ومنذ إنتخاب الرئيس الامريكي دونالد ترامب في نوفمبر 2016 وهو يتعهد بتغيير المعايير العالمية بدءا من إلغاء إتفاقية المناخ، وإتفاقية التجارة العالمية، وحتى الضمان الصحي وشروط الهجرة داخليا وكلها تحت شعار أمريكا أولا، وهي محاولة للانتكاس عن مفاهيم العولمة والشركات عابرة القوميات كتعبير عن توجهات النرجسية الوطنية ، هذه الظاهرة التي تكاد تتجدد كل مئة سنه منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم وكانت مجلبة لحروب مزقت أوربا واخرها الحرب العالمية الثانية بسبب التطرف والنزق النرجسي المفرط للنازية الالمانية .
بالعودة الى ماكتبناه منذ أكثر من 20 عاما قد تغير للاسف بشكل دراماتيكي مأساوي وحول الوطن الى مشروع فتنة و قتال بالوكالة تنفده مجاميع قروية وقبلية ومناطقية وشللية اقرب الى نموذج حرب العصابات والطوائف البدائية المتسمة بروح الثأرية وتصفية الحسابات الضيقة.
فمن وراء كل هذه الأحداث الأليمة والمدمرة للوطن؟ ومن يعبث بوطننا متسترا خلف الشعارات السياسية والقيم الأخلاقية الزائفة ...؟ هل يمكن القول أن الشعب هو من سمح بذلك الانحطاط والدمار والارتهان وهل نحن مشاركون في هذه المسرحية بصمتنا وتهاوننا وتحيزاتنا النرجسية القبلية والمناطقية، فدمرنا وطننا بأنفسنا وخذلنا أبناؤنا في حلمهم بمستقبل واعد ومشرق الى مستقبل مجهول كئيب ومظلم فأصبحوا يموتون غرباء- على حد تعبير اديبنا الشهيد محمد أحمد عبدالولي- في وطنهم المغدور.

مسك ختام مقالتي هذه أطرزها بحكمة قالها الاديب والصحفي اللبناني المقيم في باريس أمين معلوف:
متى تعرف أنك تائه؟
●عندما تقف في بلادك، وعيناك ترنو إلى بلاد أخرى.
●عندما تقف في بلاد لم تنشأ فيها، وعيناك ترنو إلى بلادك.
●عندما تبقى في بلادك، وعيناك على مستقبل تراه مستحيلاً.
●عندما تبقى في بلادك، وعيناك على ماضي لن يعود أبداً.
بالتأكيد هذا لايعني ان الصورة الكئيبة لواقع ممزق لا تبعث بصيص أمل له، فحتماً دوام الحال من المحال فقانون الديالكتيك يخبرنا بانه من دجى الفجر المظلم تشرق اشعة الصبح المضيء.

د. وليد عبد الباري قاسم صالح
أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية المشارك
كلية المجتمع – عدن