آخر تحديث :الجمعة - 17 مايو 2024 - 11:57 م

كتابات واقلام


في الذكرى الأولى لرحيل القاص اليمني الموهوب ميفع عبدالرحمن

الجمعة - 08 أبريل 2022 - الساعة 08:46 م

د. وليد عبدالباري قاسم
بقلم: د. وليد عبدالباري قاسم - ارشيف الكاتب



توفى الكاتب والقاص الموهوب ميفع عبدالرحمن في ٣ أبريل ٢٠٢١م اثر جلطة دماغية، وكما عاش في طي النسيان مرت الشهور والسنة وللأسف كالعادة تغيب الدولة ورموز المؤسسات الادبية وذات العلاقة التي تجمع المعونات والاشتراكات وتهدرها فيما لايخص قضية الافراد او المنتوج المهني او الفكري المعنية به وتلك لتعني اشكالية اخلاقية ومهنية كبيرة في واقعنا اليمني شديد التخلف. رحل أديبنا المبدع بصمت وتواضع كالمعتاد فقد عاش حياة بسيطة ومعقدة نتيجة الاضطرابات والازمات السياسية التي المت بالبلد و اودت بحياة الكثير من كوادرها هباء ودون رحمة او شفقة، منذ الاستقلال المشؤوم من الاستعمار البريطاني1967 وحتى يومنا هذا الاشد شؤما، انها كارثة تحل بنا وشعبنا البائس المسكين والذي أصبح في يوم وضحاها لا أمل له في الحياة والموت الذي صار ارحم من الحياة تحت الظلم والعذاب والخطيئة المسيسة، ولكن هذا لا يعني الاستسلام فنحن شعب لا يقبل الهزيمة ، وكما قال شاعراليمن العظيم الدكتور عبدالعزيز المقالح في قصيدته عميقة الدلالة بتعبيرها لمعاناة شعبنا الأبي وكانت تحت عنوان ( الصمت عار)، اكتفي هنا ببيتها الشهير الرامز لروح العناد والصبر والبسالة التي لاتلين لها قناة باصدق توصيف:" سنظل نحفر في الجدار إما فتحنا ثغرة للنور او متنا على وجه الجدار ".
لقد وجدت ان افضل تذكير بهذه المناسبة لفقيد القصة اليمنية المعاصرة واحد ابرز رموزها المنسية ميفع عبدالرحمن أحمد هو إعادة نشر مقدمة المجموعة القصصية الاولى التي صدرت في عام 1975 بعنوان " بكارة العروس" وقدم لها الاديب والروائي الفلسطيني المرحوم علي حسين خلف ، الذي عاش وعمل انذاك في عدن. صحيح أن الزمن قد تغير منذ ذلك الوقت وجرت في النهر مياه عكرة كثيرة كما يقال ولكن عظمة الابداع تظل راسخة في الوجدان والذاكرة عند أصحاب الضمائر والقلوب الصادقة ، قد نختلف في بعض وجهات النظر ولكن لاننسى ان نحترم من نختلف معهم بتقدير المبادئ والاخلاق والقيم الذي تمسك بها الانسان ولم يخنها رغم كل متغيرات الزمن ومقاومة الاغراء امام سوق بيع النخاسة والارتزاق بلا حدود. رحمة الله عليك ابن العم ميفع .

" بكارة العروس"
والقصة القصيرة فى اليمن
بقلم: علي حسين خلف

من هو ميفع عبدالرحمن؟؟
كنت دائما اسال عنه منذ عام 72م وظل لغزاً يظهر لى برسائله الشخصية ونتاجه القصصى المبدع. وعجبت لماذا يخفى اسمه الحقيقى فى طيات وادى ميفع حجر، ولماذا يصر على اخفاء جسده ويحضر بنتاجه بقوة فرضت نفسها واحترامها داخل الاوساط الادبية اليمنية.
ظل هكذا ، بالنسبة لى، ميفع عبدالرحمن.
مجرد شبح يمضغ تجربة عاطفية مرة، وينتمى للثورة بحضور ناقد وبصيرة مرهفة، ومثقف يبعثر نفسه على مقاطع القصص كعلامات فارقة للثورة والتمزق، وكصانع ماهر مزج كل ذلك ، وغنى للوطن، للقمر المنقلب من بين اصابعه، ولعرق الفلاحين ، ولكل الواقفين فى الطابور .
كنت تواقا لرؤيته وجها لوجه ، حتى شق الارض وانتصب فجأة فى منزلى يحمل " بكارة العروس". وعرفت آنئذ – ولاول مرة – اسمه الحقيقى وسر الاختفاء وراء الوادى. وحاولت التوفيق عبثاً بين محمد عبدالرحمن احمد – اسمه الحقيقى – وبين ميفع عبدالرحمن – الاسم المستعار – الذى عودنا عليه، وظللت احادثه بأسمه الفنى حتى قفل عائداً الى المحطة الزراعية فى الضالع.
* عمل ميفع في الضالع كضابطا زراعيا بعد تخرجه من كلية ناصر للعلوم الزراعية 1975.
قلت فى مقال قديم:
" أن البناء الفنى لقصص احمد محفوظ عمر يقف الى جوار كبار المجددين الشباب فى البلدان العربية وهو فى المدرسة الواقعية التى تتجاوز وجودية غادة السمان وتظل كالرادار تلتقط كل ما هو فى المجتمع مع التحفظ فى طرح الحلول. وعبرت عن ذلك قصص ميفع عبدالرحمن التى استكملت الجانب الناقص فى قصص احمد محفوظ عمر وبفنية تضاهى ما تنشره الآداب" .
وفى الشهادات الادبية التى اجرتها صحيفة "الثورى" قلت عن القصة القصيرة:
" اما فى القصة القصيرة فسجل محمد عبدالولي " شئ اسمه الحنين" غزارة وجودة فى الانتاج جعلته يقف فى الصف الاول والى جواره احمد محفوظ عمر وميفع عبدالرحمن. ومجمل هذه القصص تعكس هموم الانسان اليمنى ورغبته فى تجاوز واقع التخلف والجهل والمرض" .
اذن فنحن امام ثلاثة فرسان يقفون متجاورين فى الصف الاول لكتاب القصة القصيرة فى اليمن. ومع ذلك فان سماتهم ليست متطابقة، ولكل منهم طابعه الخاص فى نقل تجربته. ونماذج شخصياته وايحاءاته الرمزية الشمولية وفى موقفه من الحدث والبطل والشخوص الرديفة.
قال احمد محفوظ عمر: " أود ان اوضح حقيقة للجميع اننى لم اكتب انتاجى القصصى الجيد والذى ارضى عنه الا بعد الثانى والعشرين من يونيو 69"، ويتفق هذا الرأى مع الناقد عبدالرحمن فخرى الذى اعتبر احمد محفوظ عمر قاصاً جاداً فى مرحلته الاخيرة. وبذلك يريحنا من عقد مقارنة بين " الانذار الممزق" و " بكارة العروس". ومثل هذه المقارنة بين بكارة العروس كنتاج اول لميفع عبدالرحمن وبين النتاج الاول لاحمد محفوظ عمر " الانذار الممزق" ومحمد عبدالمولى " الارض يا سلمى" وعلى باذيب "ممنوع الدخول" غير ذات قيمة فى الدلالة، نظراً للقطاع الزمنى الفاصل بين هذه المجموعات، ونظراً للتطور اللاحق للاديبين محمد عبدالمولى واحمد محفوظ عمر فى " شئ اسمه الحنين" " الاجراس الصامتة"، ونظراً لتوقف على باذيب عن متابعة طريق القصة القصيرة. فبكارة العروس تتجاوز الانذار الممزق والارض يا سلمى فى دقة الوصف والدلالة الرمزية العميقة وطبيعة البطل والتداعى لتكثيف الاحساس بالحدث ووضوح الموقف والرؤيا لمساره ونتائجه. وبذلك تظل متميزة نوعاً عن النتاج الاول لاي قاص يمنى.
قال عبدالرحمن فخرى ان ما تبقى من القصة القصيرة – عدا عن محمد عبدالولي واحمد محفوظ عمر – هو "الميت الغائب" وها هو واحد من الموتى الغائبين ينهض فنياً فى بكارة العروس، ليصدم كل الذين لم يتمكنوا من مشاهدة كتاب قصة قصيرة فى اليمن سوى محمد عبدالولى واحمد محفوظ عمر.
ويلخص الشاعر عبدالعزيز المقالح الازمة فى الادب (اليمنى) بأزمة نشر وتوزيع وازمة وعى عند الاجهزة الثقافية. ويبدو ان ازمة القراءة احد واعمق، وكذلك ازمة الاكتفاء ببضع جمل تقريرية قاطعة وغير نقدية.
ولان (بكارة العروس) عمل ادبى مبدع وخلاق، وانماء حقيقى للثورة وقواها واداتها التنظيمية ، وصرخة من قلب الثورة فى اليمن الديمقراطية لا من مقاعد المتفرجين او المحايدين فانها صوت الثورة الادبى الاول فى المجموعات القصصية القصيرة. ومبادرة ثمينة وايجابية، ان تقوم مؤسسة 14 اكتوبر للطباعة والنشر والتوزيع، بتبنى طبع هذه المجموعة لتشجيع النتاج الادبى الجيد والملتزم بالثورة، ومثلما احترم ميفع عبدالرحمن القارئ بأن قدم له عملا ادبيا يتطلب منه جهداً – مهما تواضع – لفهمه واستكشاف دلالاته، فأن هذه المقدمة تحترم القارئ والناقد من فرصة الاستمتاع باستنتجات مغايرة.
(1) طبيعة البطل
يحتل (زعتر) اكثر من ثلث مجموعة "بكارة العروس" ويغطى ميفع عبدالرحمن بمهارة فائقة جانبى صورته، السلبية والايجابية، الماضية والحاضرة، من حيث الاطار العام. ثم يكثف دلالته الايجابية حتى يغدو رمزاً للفلاح المتمرد على الاوضاع والمنتمى للتنظيم والقادر على قلب ميزان القوى فى مسالة الارض لصالحه.
ففى (موسم التبغ الاخير) يرفض زعتر ان يكون السيد سبب المولود الذى طال انتظاره، وينتصر على زوجته، حتى تحدث الانتفاضة الفلاحية، فيشعر زعتر وهو ينحنى لفصل اوراق التبغ: "لقد سقط السيد والى الابد فاذا عاد ..
وصمت ليرنو بعينيه تجاه شجرة كبيرة علق على احد غصونها بندقية كلاشنكوف وحزاماً محشواً بالرصاص"
وفى "المناجل والبنادق" يبدع ميفع فى رسم صورة حوارية وصفية للاضطهاد الذى عاناه زعتر، عن طريق جملة السيد ووصف ميفع المنحاز لزعتر، والمتخن بالسخرية والجراح.
-اشتغل يا ثور
فيلتقط عينيه من الارض، يلصقهما على عشب من الدهشة يبعثهما سراً للطرف الاخر من الحقل حيث يشتغل الثور
-قلت لك اشتغل يا حمار
فيمسح عينيه بكفيه، لتبرقا من تحت دمعه، علامة استفهام جامحة تتدفق ملحاً وجراحاً كجسد زعتر، يمسح ثان عينيه وثالث ورابع، فاذا برابية من الملح والجراج تتكوم ممتدة بين قاماتهم.
ان رابية الملح والجراج، وازدواجية " الثور" الحقيقى بعرف زعتر والمجاز بعرف السيد. تشكل جسرا يمهده ميفع بعناية ليدفع بطله الى تجاوز الثور الحقيقى والمجازى عندما يقول زعتر:
-ونحن لا تشفع لنا بالبقاء قوة سوى عضلاتنا وعضوية التنظيم.
ثم يرد:
-فمن كان منا بلا راس فليبق ظهره للشمس وولاؤه للعدو ويختم لوحه الانتماء
-سيعطونا السلاح فى التنظيم فلا نعود نخشى القتل ولا الجوع
ورغم الميل الى المباشرة فى نهاية هذه القصة، بعد تسلسل فنى مشوق فأن قيمتها فى ابراز طبيعة البطل الايجابى، الذى يتكوم عرق اضطهاده كرابية ملح، تظل كبيرة ومنسجمة مع سمات زعتر فى القصص الاخرى. ويعود ميفع فيغطى هذه المباشرة فى "الوضع الطبيعى الاخر لرحم" البهجة" " التى تخلد الذكرى الرابعة لاول انتفاضة فلاحية. ومن خلال مقاطع القصة السبعة يقسط الفرحة ويتدرج مع كابس الذى ما هو الا نسخة عن زعتر- ولا يغادره الا فى المهرجان.
ففى المقطع الاول
-طلع العرق .. طلع
وفى المقطع الثانى
-ميليشيا .. الى اليمين انظر
وفى المقطع الثالث يأتى كابس الى المزرعة مع الطيور
" ولا يتركها الا بصحبة القمر والميليشيا"
اذن فكابس هو الفلاح زعتر، الفلاح التعاونى المتنفض على الاقطاع وشبه الاقطاع، وهو عضو الميليشيا والتنظيم. ولعله يقصد بالعرج الاشارة الى الجزء الاخر من الوطن اليمنى.
وفى المقطع الرابع
تغادر سرية ميليشيا محلج القطن ومركز الابحاث الزراعية محمولة على شاحنة باتجاه المهرجان، "ولكن ما ان اضاء وجهه عند الجسر الصينى الا وكان قد نصب ساقه العرجاء على الاطار الاحتياطى للشاحنة فبدى كرمح مشرع للانطلاق وكان يترنم مسروراً"
وفى المقطع الخامس يصل الموكب الى بلدة "الحصن" حيث المهرجان فتقدم الاعرج .. "وتقدم حتى ذابت عرجته بقلب المهرجان" وراعه ان يشاهد محراثاً قلابا يمر وقد كتب عليه "التعاونيات كلها تهنئ الرفيق كابس بعيد ميلاده الرابع وتهديه آلة دراس".
ويتحول زعتر فى " رد الاعتبار" الى وارث للتراث وبناء السد الاسطورى والى ناقد يرفض لنفسه ولامثاله الوقوف فى صف المتفرجين عندما يقول : "اننا لن نقبل احداً معنا يتفرج فقط .. كما لن نقبل ان يلهث احد فى اعقابنا" .
ويضيع زعتر فى القصة الحادية عشر التى تحمل اسمه، تضيع سماته التى عرفناها فى القصص الاربع السابقة، ويصبح هنا شخصية يائسة، مثقلة بالهموم، وكل بوابات الامل موصدة دونها، انها الشرخ الوحيد فى بنيان البطل الايجابى "زعتر" رغم ان كل مقطع فيها يأيتك كحد سكين لتصرخ رافضاً استمرار هذه المعاناة القاتلة.
قال احد الصحفيين فى تعليق على هذه القصة ان ميفع عبدالرحمن "يقول كلمته ويمشى ويتركك غارقاً فى الحيرة والمعادلات الصعبة" وهذا عكس ما تحكيه قصص ميفع، فى شخصياتها ودلالاتها الرمزية العميقة. والمسألة هنا ان ميفع لا يرم الكلام على عواهنه، انه يتحدث من موقع منحاز، ولهذا نتساءل لماذا بهتت شخصية زعتر الى حد التلاشى فى القصة التى تحمل اسمه؟ وهل معاناة القاص استعارت هذه الاسم من دلالته فى سياق المجموعة ؟ .. الارجح .. ان يكون ذلك هو الصحيح.
وعن طريق التداعى، وحوار الانا – الاخر يحشد ميفع عبدالرحمن ثقافته التقدمية فى القضايا الاجتماعية والسياسية ويخلطها بمسحة من الجنس فى قصصه ذات الطابع العاطفى رجل – امرأة . ويبدأ مجموعته بـ "الدرب الذى لا ينتهى" حيث يتحاور العاشقان خالد وسميرة حول المستقبل وعوائق الزواج . سميرة هنا واحدة من آلاف الفتيات اللواتى يعانين من تدخل الاهل فى اختيار شريك المستقبل ، كأحدى النماذج الدالة على عقلية الاقطاع فى التعامل مع المرأة، وتتجاوز سميرة رقابة البيت وتأتيه الى مسكنه فيتعمق الاحساس بالرفض والتمرد "اعتبرنى زوجة لك بغض النظر عما يسمونه اجراءات الماذون" وتكشف زيف التمسك بالدين " النقود عندهم كل شئ يتظاهرون بعبادة الله بينما الدينار هو ربهم الحقيقى".
وتعلن امامه عن مقومات الاقتناع به " حبى لك، ايمانى بافكارك وثقتى بمستقبلك كل هذا لا يكفى" ورغم نمو الموقف واتساع افقه، تنتابها طموحات المرأة غير المنتمية للفوز برجل محنط فى المنزل وتداهمه بسؤالها "لماذا لا تترك السياسة". فهى نموذج حقيقى للفتاة المتنورة، القادرة على نسج علاقة حب والتى تبهرها الافكار والثقافة الثورية بمقدار ما تشدها نظرة الاستقرار والهدوء فى عش زوجى مثالى.
ورغم توزعها بين القديم والجديد ، الا انها تحمل سمات ايجابية نامية فى الحب والموقف، ولاستكمال هذا النمو تحمل شخصية خالد، الجانب الناقص" تراب الوطن اغلى واعز" ثم "المهم بالنسبة لنا هو ان تنثر بذورنا الآن .. اما السنابل فاكيدا ستطلع" وبذلك تصبح الايجابية قائمة عندما يصبح البطل الرجل والمرأة معا.
وفى "الخوف ذو اللون الاصفر" يعتز البطل بأن صور ماركس وانجلز ولينين مازالت منصوبة رغم مداهمة والده لها. " على فكرة مبادئ والدي كانت صفراء" ظلت راية الثورة والتغيير واندحر الاستعمار واليمين ، وظل يحتفظ برموز انتمائه ومستقبله.
تصر مرة اخرى على لقائه فى "ليكن جحشا .. المدعو حبيبى". تتجاوز حصار الام واشارات الجدة بخبث " كان الله فى عون نهودك يا بنيتي .. انها منذ الان تبدو كضروع عجوز متهدمة" تذهب وهى تحمل قلقها " سأصارحه الليلة اما ان يلقى بكتبه الى جهنم وبئس المصير واما ان القى انا به هو بدون مبالاة".
تدور الاحداث ويكثر التداعي. التخلي عن خطيبها القديم والتخلي عن شكوكه تهمة متبادلة بالايحاء ، ومع ذلك فهو لا يملك سوى " اعذرينى .. هذا كل ما عندى لك الحب والعذاب". فيستسلم لليأس والقنوط ويمهد لها سبيل الخروج من جحيم الشك والقيود لتظل حرة طليقة وليدمن العذاب. وينهى به اليأس الى اعادة مفاتحه النفس واقناعها بعدم الاستئثار بهذه المعشوقة عندما يقول فى "المطر والجبل وانا وصديقى " " لماذا اصر على الاستئثار وحدي بنبيلة وارفض ان شارك فى اللعبة مع غيرى" فيتحول الحب الى لعبة، والغيرة الى استسلام كامل، عندها يلتقط الخيط الثانى ، صعود جبل خنفر فى بلدة جعار ويسأل صديقه: "هل يتعبك صعود خنفر؟ ايهما اكثر ارتفاعاً هو او ردفان؟ "
ورغم تمزقه فى " اشارات موجبة فى تفاعلات الزمن الحاضر" بين دبلوم الثانوية الزراعية والتفتيش عن نافذة الى كوبا (منحة دراسية) وفى غمره يأسه وهروبه من "مستقبل تخفيض الرواتب والمياه الملوثة فى وادى ميفع حجر" بعمق يأسه باشارة ذكية الى الاطفال – رمز المستقبل – لذلك يقرر دراسة الطب من اجلهم، وفى هذه الذروة تتحول كوبا – المنحه الدراسية الى كوبا – الرمز الاشتراكى، فينتشل نفسه من تصاعد الحيرة والضياع، ويشمر عن زندين قويين بالمعرفة والعمل حين يقول:
"وحان الحين لتغمس جلودنا في زيت المعرفة كي نحترق ويندلع لهيب الثورة الزراعية في مراعي الدسنتاريا والملاريا والتفحمات والأصداء فلتفتح كوبا ذراعيها وينتشر سعف النخيل في اليمن". هنا تسقط حيرة كوبا - المنحة وتنتصر كوبا الثورة وبذلك ينتصر الامل والانماء.
وبنفس الاضطراب والقلق النفسي والتمزق – رغم اختلاف الدلالة – تسير قصة (واضطراب الطابور فجاة). انها حوار داخلي مع النفس ، لانها حوار مع ذوي القربي. وكعادته يتمكن ميفع عبد الرحمن الخروج من مصيدة اليأس ومعاناة الأضطهاد فيضحي بقائد الطابور الذي (وثقوه بحرص شديد) حتي ينقذ موقفه وانتماءه.
وفي القضية التي تحمل اسم المجموعة (بكارة العروس) يميل الي المناقشة المباشرة المغلقة بقشرة رمزية رقيقة للوطن والثورة ، وذلك لخلوها من الحدث فهي وان حاولت الانتقال من الرمز الفردي الى الرمز الجماعي المباشر ، ومن البطل الحي الي البطل التاريخي كحدث ، فانها لم توفق في كشف البطل الغني بالثقافة والتجربة والانتماء. ومع ذلك فدلالاتها واضحة عن ثورتي سبتمبر وأكتوبر وعن (شلل المعشوقة النصفي) كأشارة الي تجزئة الوطن اليمني وشلل جزء منه.
فالسمة العامة لملامح البطل في قصص ميفع عبد الرحمن ، انه بطل إيجابي ، يمجد العمل ، ويعاني المرارة والحرمان والإضطهاد ، وينتمي للثورة وفكرها وتنظيمها ، ويحرك لسانه بالنقد فيقتل السلبية وكل شوائب التجربة والمخاض ، انه بطل تقدمي يهدم القديم ليصنع الجديد المزدهر.


(2) الجنس والعادات:
يكثر ميفع عبد الرحمن في مجموعته من احداث صدمة جنسية للقارئ من خلال جملة حواريه ، تشكل في الظاهر شرخاً للسياق العام وهي في الحقيقة احدى اركان ثورته الثقافية على القديم. انه يرفض جملة من التقاليد والاعراف في علاقة الرجل بالمرأه ، وجملة من الانحرافات التي يستدعيها الحرمان والكبت الجنسي ، من اجل علاقة اكثر تقدمية واكثر صدقا. وببراعة يشعرك بقناع الزيف الذي يغلف موقف المرشدين والوعاظ مدعي الدفاع عن العفة ، ويهدم جدران قصصه المبنية على ركني الهو والهي تصبح ساحته اجتماعية ، تشمل الوطن ، وان تماثلت مع خصائص البناء الثقافي في عموم الدول النامية.
يسقط قناع الساده مدعي القدرة علي علاج المرأه العقيم عندما يقول بطل قصة (موسم التبغ الأخير) لزوجته (ليأذن الله بالفرج لكن دون ان تزوري السيد ، الا اذا كان السيد هو الذي سيأذن بالفرج حقا ، فهذا أمر اخر لا يتعلق بنا انا وانت). انه هدم لتقليد اجتماعي متخلف ، في الدول النامية ، حيث يشكل المشعوذون هيئة اركان الطب الشعبي ، ويستخدمون كل ادوات النصب والاحتيال التي من شأنها ان تضفي على عملهم مسحة من الغموض والرهبه ، وتحت كل ذلك يمارسون فحولتهم الجنسية في الزوجات الباحثات عن الاولاد لعقم في الزوج.
ويتمرد علي اعتبار اجراءات المأذون هي الرابط الوحيد في الزواج دون النظر الي العلاقة الأنسانية بين الطرفين (الدرب الذي لا ينتهي). ويصدم صديقه والقارئ في جملة (لماذا يا أخي يدمن المرء في ممارسة العادة السرية؟) في (المطر والجبل وأنا وصديقي). ويصدمك مره اخرى في (اشارة موجبة في تفاعلات الزمن الحاضر) عندما يستشير امه في زواجه من روسية فتصرخ (هل ستتزوج بنتاً شيوعية؟) وتنتفض خارجة وهي تهدد (سأقاطعك الدهر كله).
ان الاشارات الكثيرة التي تتضمن رفض تقاليد الحب والزواج والجنس ، كرفض لكل البناء الثقافي الاقطاعي والبرجوازي ، تكشف عن وجه ثائر يريد عالما جديدا تتحقق فيه روياه ، لانه مجتمع تقدمي.
(3) الرمزية والتداعي:
تبتعد قصص المجموعة عن الاغراق في الغموض والرمزية المعقدة ، وتستخدم الرمز والغموض كجزء من السياق الفني للحدث ، وهي بذلك رمزية واضحة وغموض يمكن فهمه وامتلاك مفاتيحه. وفي اشد حالات القلق والضياع والبحث عن الذات المعشوقة، يظل ميفع عبد الرحمن قابلا للفهم والتفهيم ، وساعده استخدام التداعي الطليق في اكثر قصة، على تكثيف الاحساس بالرمز ، ووضع مفاتيح حل الغموض والنقلات الحاده. فيوسع رقعة المعاناة ليضمن مشاركة القاري وتهيئته لفهم الدلالة النهائية والهدف. وينجح هذا الشكل من البناء في تجاوز التقريرية والمباشرة والخطابة في معظم قصص المجموعة، من خلال تصاعد ونمو الحدث والشخصيات. وفي الحالات التي يفتقد فيها الشخصيات والاحداث ، تتسرب المباشرة والتقريرية كما في (بكارة العروس) وعندما يعجز او يمل عن إنماء حدثه ومتابعته يسقط مرة اخري في نفس الهفوات كما في نهاية (المناجل والبنادق).
(4) الموقف:
ينجح ميفع عبد الرحمن في (بكارة العروس) في التعبير عن موقف ادبي تقدمي وعن موقف طبقي وايدولوجي منحاز للاشتراكية العلمية. فقد ناهض القديم كبنية تحتية وفوقية... ومهد السبيل امام الجديد في الناحيتين. ولم يبق موقفه في اطار من العمومية الهشة فيعلن عن اقتناعه بالتنظيم والميليشيا والتعاونيات. وهذا النجاح ميزة خاصة انفرد بها ميفع عبد الرحمن قياسا الي المجموعات القصصية المطبوعة التي صدرت في السبعينات ، شئ اسمه الحنين لمحمد عبد الولي الاجراس الصامته لمحمد صالح حيدره.
واعتذر من القارئ لاطالتي الوقوف علي بوابة المجموعة ، آملا ان يعود لهذه الوقفة بعد الانتهاء من قراءه المجموعة لاغناء الحوار حولها وحول القصة القصيرة في اليمن.
علي حسين خلف - عدن
22 مارس ، 1975م