آخر تحديث :الجمعة - 03 مايو 2024 - 01:51 م

كتابات واقلام


د.حسين الكاف..حكيم الرؤساء

السبت - 02 يوليه 2022 - الساعة 11:56 م

نصر مبارك باغريب
بقلم: نصر مبارك باغريب - ارشيف الكاتب


شكا له الرئيس قحطان الشعبي أثناء إقامته الجبرية جور زملاء الكفاح (....)، وتحدث معه الرئيس سالمين عن زيف مبادئ الرفاق وغدرهم (....)، وتحلوا جلسات الرئيس علي ناصر محمد بوجوده (....)، وعند الرئيس علي سالم البيض يفقه الحاضرين قوله الرصين (....)، لم ينجرف مع تيارات المصالح ولعبة الكراسي، وشبق السلطة ووضاعة أساليبها ووحشيتها.

رغم أنه اقترب من السلطة وقادتها، إلا أنه بقي بعيدا عن صراعاتها الدانكشوتية، ولم يتماهى معها كما فعل الكثيرون رغبة بمكاسبها. حافظ على مبادئه النقية، التي لم تتلوث بادران السلطة، ما أكسبه احترام الجميع دون استثناء، فلم يكن له خصوم من فرقاء السلطة المزمنين.

أنه الدكتور حسين محمد الكاف طبيب الرؤساء والبسطاء، ويحق لنا القول إنه حكيم الرؤساء وليس طبيبهم فقط، تولى مهام الطبيب الخاص للرئيس الجنوبي الاول قحطان الشعبي، واستمر بهذا الموقع مع جميع رؤساء الجنوب حتى الرئيس علي سالم البيض العام 1990م.

وسر استمراره في هذا الموقع القريب جدا من الرؤساء هي كفاءته المهنية وخلقه الدمث، وتعففه عن مناصب ومكاسب السلطة.
كان يرفق مع روشته العلاج للرؤساء عند مرضهم ، روشته جبر الخواطر وتطيب النفس، مضاف اليها جرعة معنوية مشبعة بالإنسانية، فأحبه الرؤساء جميعا..، ليس لكونه طبيبهم الخاص، بل كونه الحكيم الإنسان الناصح الامين لهم، والصادق الصدوق، وكاتم أسرارهم (....).

حاولت كثيرا ومنذ سنوات فارطة استمالته لإجراء حديث صحفي معه بغرض النشر للكشف عن تجربته الطويلة مع الرؤساء ومعرفة اسرار المراحل التي عاصرها معهم...، فكان يواجه طلبي بابتسامة المحب الممتنع، رغم ملازمتي له مرة على الاقل بالاسبوع في ملتقى الحبيب علوي البار لمايزيد عن عشر سنوات خلت، كان يقول لي انها أسرارهم ولايحق اطلاع أحدا عليها، ولايحق كذلك إثارتها الآن أو في المستقبل حتى لا تثير الفتنة أو مظهر من مظاهر الصراع والتباغض بين الإخوة والمكونات الاجتماعية للبلاد...!
احترمت موقفه وحكمته ورحل الدكتور حسين الكاف يوم الثلاثاء (28 يونيو 2002م)، حاملا صندوق أسراره المقفل معه، مجسدا الحكمة، والانتماء للأرض والإنسان، والسمو الاخلاقي بأعلى المعاني في زمن قل فيه الوفاء وتهشمت القيم على قارعة طريق التيه لبوصلة الاوطان.

الدكتور حسين الكاف هو من القلائل الذين حافظوا على مبادئهم التي لم تتبدل ولم تتغير رغم المغريات التي تلقاها وتقلبات المراحل التي عاشتها وتعيشها البلاد.
تمسك بمنهجه الإنساني العروبي، وأخلاقه العالية وتواضعه الجم، مع جميع الناس دون استثناء، كان بعيدا عن أمراض الغرور أو التعالي والعنصرية، رغم توفر كل الحيثيات التي جعلت غيره يصاب بتلك الأمراض ولم يشفي منها، فمكانته الأكاديمية والوطنية الكبيرة...الخ، كانت تزيده تواضعا وحبا وقربا من الناس الذين احبهم واحبوه.
عشق مهنته حتى الثمالة، قال لي ذات يوم: أجمل أوقات سعادتي عندما أكون مع طلابي بالجامعة أو مع المرضى بالمستشفى، وأسعد عندما ارى طلابي قد استفادوا من تعليمي لهم واصبحوا أطباء يشار لهم بالبنان، وأسعد أيضا عند أرى المرضى الذين اعالجهم وهم يتشافون ويتمتعون بالعافية.
كرس الدكتور حسين الكاف حياته لخدمة الآخرين والاهتمام بهم، وتناسى أن يهتم بنفسه كما يجب...
كان يسأل عن أحوال كل من يعرفه، ويسأل دائما عن حالة فلان أو ذاك الذي لم يراه منذ مدة.. وعن صحته وعن وضعه ومعيشته...الخ، ولا يتوانى ابدا عن الذهاب الى المنازل ليعالج انسان احتاج اليه، كما كان منزله مفتوحا دائما لكل من طرق بابه بحثا عن علاج لمرضه عند حسين الكاف الطبيب الانسان.
كان الملتقى الاسبوعي للحبيب علوي البار قد أصبح مكانا مجانيا للاستشارات الطبية ووصف العلاج لرواده الذين يقتربون إلى مكان جلوس الدكتور حسين الكاف في زاوية المجلس ليشرحوا له حالاتهم أو حالات اقاربهم المرضية ويعرضوا عليه نتائج الفحوصات...، طالبين وصفات علاجية منه، وكان يكتب لهم أنواع الأدوية المناسبة لامراضهم بكل اهتمام وحب ويوجههم لمسارات العلاج والوقاية والاهتمام بالذات والصحة.
لم يقتصر دوره كطبيب يحمل شهادة الدكتوراه ولقب بروفيسور بمجال تخصصه، بل امتد دوره إلى تقديم الإرشاد والنصح لمشاكلهم الخاصة الشخصية، بل إنه يتدخل عند المعنيين لمعالجة اي مشكلة لشخص لجأ إليه نظرا لما يتمتع به من تقدير وثقة عند الجميع.
ووسط هذه الانشغالات اليومية المزدحمة مابين عيادته وتفقده اليومي لأصدقائه وفتحه لمنزله لاستقبال الحالات الطارئة، ومتابعته لحل مشكلات الآخرين، نسى أن يهتم بنفسه وكان يخفي متاعبة الصحية والاجهاد الذي يبذله فوق طاقته، فأخذ مرض الشرايين يزيد معاناته في أيامه الاخيرة، مع استمرار صمته عن حالته الصحية ، جراء انشغالاته اليومية بتخفيف معاناة الآخرين.
كانت الأيام الأخيرة من حياته، مجهده جدا له كان يصحوا مبكرا لحضور فعالية طبية عقدت لثلاثة أيام متتالية، وكان يقضي بقية اليوم بمتابعة قضايا الناس وحالاتهم المرضية..الخ، فلم يحتمل جسمه هذا الانهاك المضاعف وهو يعاني مايعانيه في شرايين قلبه الطيب دون أن يخبر به أحدا، حتى كان اليوم الأخير (الثلاثاء - 28 يونيو 2022م)، عندما شعر بالأعياء فغادر ظهرا قاعة الفعالية العلمية بكلية الطب بجامعة عدن، وذهب إلى منزله بحي حافون بالمعلا، لياخذ شيئا من الراحة لجسده المنهك فاستلقى على سريره بهدوء لينام، ولم تمضي الساعة الثامنة مساءا فلم يستيقظ عندما حاول أهله ايقاظه، فايقن حينها أن روحه صعدت إلى بارئها، رغم تمسك ببصيص أمل عند نقله إلى مستشفى خليج عدن بالمعلا، فتم تأكيد الوفاة، فجاء الخبر كالصاعقة وأشد إيلاما عند كل من عرفه أو تتلمذ او تعالج على يديه..، فكان الثلاثاء يوما حزينا لنا ولمدينة عدن ولمدينة تريم بحضرموت مسقط رأسه، ولكل الوطن الذي عرف واستفاد من العطاء المغدق لهذا الرجل في معظم مستشفيات محافظات وارياف الجمهورية، وفي عمادة كلية الطب والعلوم الصحية بعدن، وكعالم فذ له صولات وجولات علمية في المؤتمرات والندوات المحلية والعالمية.
رجل ينتمي إلى فئة العظماء، رجل بذل حياته كلها من أجل تعليم الآلاف من الطلاب وأطباء اليوم والمستقبل في كلية الطب، كرس حياته من أجل علاج وتطبيب مئات الآلاف من المرضى والناس البسطاء، والزعماء ورؤساء الدولة.
طبيبا متميزا لايكتب لك الدواء الكيماوي فقط، بل يبث روحه الطيبة والمتفائلة لك، يهتم بك ويشاطرك همك ويسعى للتخفيف عنك، وبلسمة النفس قبل الجسد.
نناشد الرئاسة والمعنيين بالعاصمة عدن بإطلاق اسمه على المستشفى الجديد بكريتر (مستشفى عدن بجوار عدن مول)، وبإطلاق اسمه على القاعة الكبرى بكلية الطب الذي ساهم بتأسيسها وتولي رئاستها (عميد الكلية)، وبتشكيل لجنة لإعداد كتاب توثيقي عن سيرته ومأثره وعن الأبحاث والدراسات التي كتبها.
ذلك جزء يسير من العرفان لسيرة الدكتور حسين محمد الكاف هذا الرجل العظيم، الذي قدم كل شيئ، ولم يأخذ شيئ، نسأل الله أن يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته، وان يلهمنا وأهله ومحبيه الصبر والسلوان، انا لله وانا اليه راجعون.
------------------------------
نصر مبارك باغريب
------------------------------