آخر تحديث :الأربعاء - 08 مايو 2024 - 04:12 م

كتابات واقلام


عن التصالح والتسامح

الخميس - 05 يناير 2017 - الساعة 01:22 ص

قاسم داؤود
بقلم: قاسم داؤود - ارشيف الكاتب


الإهداء إلى المفكر العربي الكبير الأستاذ د/ أبوبكر السقاف، الذي قدم اسهامات نظرية وسياسية ثرية ورصينة وشاملة عن الوضع في الجنوب، (الاحتلال والقضية والثورة) شملت أيضاً عملية التصالح والتسامح التي كانت من بين أهم القضايا التي وضعها في مركز اهتمامه ومتابعته، وخصها بعدد من الموضوعات في مناسبات عدة، اقتطفت الآتي منها: "إن 13 يناير لا يجب أن يكون إلا يوماً للمصالحة الوطنية والتسامح والأخاء، والاغتسال من كل أدران الماضي وجهالاته وجرائمه وأخطائه الجسيمة حتى يمهد الجنوبيون ذلك الالتفات الجاد إلى اللذين عانوا منذ الاستقلال وبعد وحدة 7/7/94م، ويتجسد يوم المصالحة برد الاعتبار المعنوي والمادي لكل اللذين عانوا رجالاً ونساءً، ولكن هذا أمر لا يمكن تحقيقه إلا بعد أن يستعيد الجنوبيون الوطن ويمارسون وطنيتهم عبر حق تقرير المصير". (1) وفي موضوع آخر وحول نفس المسألة، كتب قائلاً: "يا أهل الجنوب اتحدوا وانبذوا كل هذه العصبيات الجهوية، واصنعوا من العصبية الجامعة لب الوطنية الجنوبية". (2) التاريخ هو الذي سوف ينتصر لعملية التصالح والتسامح، ووحده من سيضعها في مكانة تليق بها مع غيرها من الأحداث التاريخية الهامة المجسدة للقيم الإنسانية المعبرة عن النبل والسمو التاريخي، والسلام وحب الحياة الحرة الكريمة. كان لعملية التصالح والتسامح التي أطلقها شعب الجنوب دورها التاريخي في تحصين مجتمع الجنوب ومده بالمناعة التي مكنته ليس فقط من مواجهة الأخطار الوجودية التي استهدفت وجوده ودوره (ماضيه ومستقبله)، وإنما أيضاً وفرت الشروط وهيئت الظروف المواتية والضرورية لانطلاق ثورته السلمية (الحراك الجنوبي السلمي) التي جسد بسلميته مضمون ورمزية التصالح والتسامح. والتاريخ الإنساني سوف يسجل لهذا الشعب أنه أول من أطلق عملية شاملة للتسامح والمصالحة بعيداً عن إرادة القوى الحاكمة، وعن مؤسسات الحكم والنظام السياسي، بل والتي أعلنت عليها الحرب. كما سيسجل له أيضاً أنه أول من أطلق ثورة سلمية على كل ترابه الوطني، صمدت وتصاعدت ولم تنكسر وطوال زمن تجاوز الثلاثة عشر عاماً، وإلى حين أُجبر على استخدام حقه المشروع في الدفاع عن النفس، والسعي لاستعادة كامل حقوقه، بما فيها الحرية والسيادة، والدولة الوطنية المستقلة. ونظراً للأهمية والمكانة التي احتلتها عملية التصالح والتسامح وما أنجزته في مسيرتها من نجاحات، وتحول العميق الذي أحدثته في حياة هذا الشعب، والتي كانت أساس ثباته وصموده، ووقوفه موحداً ولأول مرة في تاريخه بوجه عدوان 2015م، ومكنته من هزيمة القوى المعتدية ودحرها بتحرير أكثر من 80% من أرضه. وعلى الرغم من إن عملية التصالح والتسامح والثورة الجنوبية السلمية قد شكلا معاً الجناحان اللذان نهضا بهما الجنوب وحلق نحو المستقبل الذي يليق به، ومما يجمعهم ويوحدهم، إلا أن لكل من هاتين العمليتين التاريخيتين ما يميزها في منطلقاتها وقواها ورسالتها وديناميتها، وهو الأمر الذي يستدعي الحرص على تجنب صهرهما، والذي سيقود أن حصل إلى الإطاحة بواحدة من منهما. فالتصالح والتسامح تعني ثورة قيمية، ثقافية، حقوقية، سياسية، وسلوكية مع الذات، تهدف إلى تخليص الجنوب من تركت الماضي وآثاره، إلى جانب وما يعد الأهم تحصينه وحمايته في الحاضر والمستقبل من العنف النزاعات والتشظي الداخلي، وتسليح القوى والنخب الجنوبية بوسائل وأدوات تمكنها من إعادة تشكيل وبناء العلاقات البينية الجنوبية-الجنوبية على قواعد وأسس جديدة، من الشراكة وقبول الآخر، وتكافئ المصالح والحقوق، وأهمها الاحتكام لإرادة الشعب بديلاً عن العنف والإقصاء والتسلط، وهي عملية ارتقائية تتفاعل وتتكامل مع الثورة السياسية، والفعل الجماهيري الميداني سواءً في مرحلة التحرير أو المرحلة اللاحقة لها. لقد تم في السنوات الماضية التعاطي مع التصالح والتسامح بمفاهيم وشعارات وخطاب وأدوات الثورة السياسية، وهو الخطأ الذي ألحق بالأولى أضراراً وتشوهات، وحاصر دورها وتأثيرها في نطاقات محددة، وكانت من الأخطاء التي ارتكبت على صعيد إدارة وتحقيق الفعل الثوري والسياسي، عدى ما حملته وحمته الجماهير وضلت وفيه له. ويبدو وجود إصرار على الاستمرار في هذه الأخطاء الفادحة وتكرارها هذا العام، وقد لوحظ ذلك منذ بدء التفكير بأحياء مناسبة انطلاق عملية التصالح والتسامح، وهي أخطاء ترقى إلى مستوى العبث والتفريط بما تم تحقيقه، بل وإصرار لحرف التصالح والتسامح عن مساره وعن أهدافه، أذ وبدلاً من أن تكون المناسبة محطة لانطلاقة جديدة، لتطوير وتعزيز ما تم تحقيقه، والارتقاء إلى ما تتطلبه التحديات والظروف الجديدة، يلمس أن هناك من يعمل لصالح غايات معاكسة، ويريد أن يجعل من المناسبة منطلق لتأجيج حالة الانقسام والاستقطاب، والعودة بالوضع إلى المربع الأول، وما الاختلاف المثار حول تشكيل اللجنة التحضيرية سوى مؤشر على هذه الحالة والذي سوف تعكس نفسها على الأعمال القادمة بما فيها مخرجات الفعالية إذا كتب لها النجاح. أن المسؤولية والحرص يتطلبان أولاً الفصل من قيادة المسار الثوري السياسي، ممثلاً بقيادات المكونات والقوى السياسية، ومسار عملية التصالح والتسامح الذي ينبغي أن تتشكل قياداتها من أطر ومستويات، تحقق أوسع نطاق من المشاركة والتمثيل المجتمعي، السياسي، الروحي وغيرهم. أما إذا كان الإصرار على تنظيم الاحتفال لدواعي سياسية فما هو الجديد الذي يستدعي ذلك بعد احتفالية 30 نوفمبر التي لا يفصلنا عنها سوى خمسة أسابيع تقريباً، ألا يعني ذلك تكرار لذات المواقف والخطاب السياسي، التي لا صلة لها برمزية ودلالات المناسبة. أليس من الحكمة والصواب والمصلحة الإقرار بأن تحديات الحاضر وتعقيداته لا يمكن مواجهتها وحلها بما كان يتبع قبل عام 2015م، وأن ثمة متغيرات جوهرية وأساسية وأولويات جديدة ينبغي الالتفات لها، وفي مقدمتها تلك التي أبرزها وميزها المفكر د/ أبوبكر السقاف حين كتب قبل سنوات: "لا توجد في الجنوب مشاكل، بل مشكلة واحدة تناسلت منها مشاكل، ألا وهي غياب الإرادة السياسية الحرة لأبناء وبنات الجنوب، وحقها في تقرير مصيرها وإدارة شؤونها والارتقاء بها وحدها إلى الشعور بكرامة المواطنة، بدون إضافة المتساوية، لأنها مثل الحرية أما أن تكون أو لا تكون". (3) (1) د/ أبوبكر السقاف - دفاعاً عن الحرية والإنسان )الطبعة الأولى 2011م - (صـ 289. (2) د/ أبوبكر السقاف -دفاعاً عن الحرية والإنسان )الطبعة الأولى 2011م - (صـ 287. (3) د/ أبوبكر السقاف -دفاعاً عن الحرية والإنسان )الطبعة الأولى 2011م - (صـ 286.