آخر تحديث :الجمعة - 17 مايو 2024 - 11:57 م

كتابات واقلام


الذكرى 97 لميلاد الشهيد عبدالباري قاسم صالح

الإثنين - 06 نوفمبر 2023 - الساعة 07:47 م

د. وليد عبدالباري قاسم
بقلم: د. وليد عبدالباري قاسم - ارشيف الكاتب


حصلت على الاذن بالرحيل. ودعوني ياإخواني!
أنحنى لكم جميعا وارحل.
ها انا أعيد مفاتيح بابي ـ واتنازل عن جميع حقوقي في منزلي . لا أطلب منكم الا كلمات رقيقة اخيرة.
كنا جيرانا لفترة طويلة، لكني تلقيت اكثر مما كنت استطيع ان اقدم. الان بزغ فجر اليوم وانطفأ المصباح الذي أضاء زاويتي المظلمة. وصلتني دعوة وانا مستعد لرحلتي .
طاغور، من جيتنجالي،93
الكتابة رسالة ومنهج له قيمة بلا حدود وتعد السيرة الذاتية واحدة من أهم الكتابات التي تسعى لمحاولة حفظ التعلم عند الاجيال والتذكير بروح الكرامة والافتخار بتاريخ الاجداد والوطن والارض ومن ثم الشعور بالانتماء . للأسف الشديد غاب عنا جميعا مواطنين وصناع قرار سياسي وتربوي الاهتمام بذلك الامر وانشغلنا بامور المعيشة اليومية والتي وصلت الى الدرك الاسفل بالصراع من اجل النجاة في هذه الحياة ، من خلال مطالب تحقيق الحد الادنى من سبل العيش الكريم ومع كل تفهمي لهذا الاستحقاق الوجودي. ولكنه لشيء مؤسف ان تكون جل غايتنا اليوم في لقمة عيش ومأوى وشعاع ضوء ونسمة ملطفة لهواء قاتل ومسموم . إن كل ذلك سيتناقض ويتخالف كليا مع سيرة كفاح ونضال الاجيال منذ تفجير الثورة ورفع شعارات طموحة مشحونة بعاطفية العزة والكرامة المتبددة.
رغم كل تلك السحب الداكنة المحلقة في سماء وطننا التي تحرمنا من نعمة الكرم بالمطر والرخاء ، عوضا عنها تخنقنا برطوبتها القاتلة وتبخل علينا بجود ما في باطنها ، نقول بالرغم من كل ذلك سنجعل من الامل شمعة تضيء تلك الدياجر المظلمة وترفع ولو مثقال ذرة من بصيص امل للأجيال في مستقبل مشرق ، ولن يتحقق في راينا ذلك ما لم نتصالح مع ماضينا ونحسن إستذكاره والتعايش معه بتقدير وعقلانية وفهم مدروس وموضوعي متجنبين شحنة الاحقاد والكراهية والانفعالات وردود الافعال المتهورة والانتقامية العدوانية التي لن تزيد الطين الا بلة.
وكمحاولة لعبور جسور الانكسار والاحباط والالم من الواقع اليوم الى فضاءات التأمل للمستقبل من خلال محاولة متواضعة لقراءة تجارب شخصيات ساهمت بكل اخلاص وامل في الخلاص لشعبنا اليمني وتحرره وتطوره ، سأحرص هنا لتناول السيرة الذاتية لوالدنا – رحمه الله الشهيد عبد الباري قاسم – بمناسبة الذكرى 97 لميلاده في السابع من نوفمبر 1926 وبما تيسر من الذكريات الشفية – التي ساورد قرين كل محطة من زودني بها للامانة التاريخية في التوثيق- التي سأحاول ان اسطر حروف وكلمات لعلها تعبر ولو بالحد الادنى عن ما نطمح اليه من نفض الغبار وتجدد الامل بالروح المعنوية الوطنية الفخورة بتاريخنا من خلال رموزه المنسية.
نتداول في هذه الذاكرة محطات وقطوف من سفر النضال والذكريات لحياة الشهيد عبدالباري قاسم صالح والتي سأسردها على النحو التالي لتسهيل القراءة والمتابعة المركزة بالتوثيق المفيد للأحداث والتواريخ والاشخاص والاماكن .
المحطة الاولى: وهي كما روتها لي والدتي عن والدي أنه عندما كان مراهقاً في مطلع الأربعينات من القرن المنصرم قرر عبدالباري الذهاب برفقة بعض الزملاء إلى محافظة أبين وكانت هذه تعتبر رحلته الأولى له لكونه صغيرا وكان والده الشيخ قاسم صالح خائفا عليه خصوصا ان عبدالباري قام من مرض عضال عانى منه لسنوات، فذهب معه اخاه الأكبر محمد سعد(أخ من أم) وعندما وصلوا ابين وبالصدفة في احدى القرى كان هناك موقع به معلم اثري مهجور قديم وبه سلم إلى الأسفل فقام احد الزملاء وتطوع بالنزول ليرى ماذا يوجد بالداخل وبالفعل كانت غرف مظلمة ومهجورة حتى انه صعق من شدة الخوف و من شدة الهلع خرج راكضا مدعيا بأن المكان مسكون وان هناك جن وشياطين قد جردته ملابسه وخرج ركضا فاراً مصرخا بان الجن وشياطين في الأسفل وعليهم بالهرب ، ولكن عبدالباري لم يخيفه ذلك فقرر النزول بالرغم من اعتراض اخاه وبالنهاية نزلا سوية وكان معهما مصباح صغير فرأوا انها غرف فيها اسرة للنوم قديمة جدا وازيار للماء للشرب وادركوا حينها بأنها للبدو الرحل وأصحاب الجمال الذين يأتون من الصحاري ليحتموا ويبيتون بها ثم يغادروا الملجأ ووجدوا هناك كثير من المسامير العالقة والبارزة في الجدران الطوبية القديمة وبها كانت معلقة ملابس صديقهم المذعور الذي اعتقد أن الجن هم من اخذوا ملابسه فأحضروها له وشرحوا له انها كانت عبارة عن مأوى مهجور للرحالة وغيرهم. ومن هذه الواقعة نلتمس روح التحدي والاستقصائية في البحث عن الحقيقة التي تشبع بها والدنا مبكرا ومهدت الطريق لخياره في حب الصحافة.
المحطة الثانية: من احداث 1948 في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي العربي وقد كانت هناك مشاركة لوفود عسكرية وإعلامية وسياسية من الوطن العربي وبهذه الصدد تحمس والدنا لما لديه من شهية حب الاسفار والترحال حيث وجد نفسه ضمن ثلة من المتطوعين اليمنيين للمشاركة في الدفاع عن القضية الفلسطينية والحرب ضد العصابات الصهيونية. حينها ذهب والدنا عبد الباري قاسم كمشارك صحفي على خلفية كتاباته في صحفية فتاة الجزيرة التي كتب فيها كمحرر وشاعراً بالإضافة انه يجيد التصوير وكانت هذه من العلامات المتميزة له كصحفي بحبه لحمل الكاميرا دوماً للتصوير.
كان لعبد الباري قاسم صور كثيرة ، ولكن للأسف الشديد الكثير منها ضاع وتلف أما بسبب الحروب والتنقل أو غياب نظام الحفظ والارشفة السليمة. لكن ما تيسر ذكره من بعض هذه الاحداث لقائه مع بعض الصحفيين وعلى رأسهم محمد حسنين هيكل (حيث كان هيكل يغطي الاحداث في فلسطين ايضا عن الصحافة المصرية) اثناء تلك الفترة وعنما عاد الى عدن وكان يتم الاستيلاء على املاك اليهود ومبانيهم وضمن ردات الفعل الانتقامية للأحداث التي جرت في فلسطين، حيث تمكن عبد الباري قاسم وبعض من زملائه في الشيخ عثمان من اخد البعض من تلك المباني و المتاجر وماكانت تسمي في ذلك الوقت ببراقات اليهود، ونظرا لاهتمامه بالفكر والثقافة فقرر بأخذ أثنين من تلك البراقات وحولها الي مركز ثقافي (ملتقى ثقافي- ومبرز قات) -من بلورة موقف ايجابي من الاستفادة من تلك المنشأت ليس بغرض التكسب والارتزاق للمعيشة اليومية كالبيع مثلا. فكان يجتمع فيه الشباب وكان عبد الباري يحرص على التواصل مع دور النشر في لبنان ومصر لإرسال الصحف والمجلات وكانت الحياة في عدن تحت الحكم البريطاني متميزة بقوة الاتصالات البريدية والتواصل الثقافي والحضاري واستغل عبدالباري قاسم ذلك وكان يجلب الصحف والمجلات العربية الي المركز. حدثني وأكد لي ذلك الاستاذ عبدالله فاضل فارع عندما كان مستشار لرئيس الجامعة عدن عندما زرته في مكتبه عام 1998م وحكى لي عن الوالد عندما عرفته باني ابن عبدالباري قاسم فقال: كان والدك اكبر منا سناً، فكانوا يجتمعون ويقرأون الصحف وأخبار الشرق الاوسط كانت تلك هي البداية الاولى، حيث عكس اهتمام عبدالباري قاسم بالفكر والثقافة والتنوير لإرهاصات حركة القوميين العرب المبكرة جدا .
المحطة الثالثة: حدثني بها أحد رواد منتديات الشيخ عثمان عندما ذهبت بمعية الزميل الدكتور محمد أدم – رحمه الله الاستاذ بجامعة عدن ، كلية الزراعة بقسم الاحياء في عام 2005- وكان هذا الشخص على علاقة مع والدي ،لا أتذكر اسمه للأسف الشديد حيث قال: "انا وعبدالباري قاسم كنا ذاهبين الي لحج لتصوير الحسيني والحياة بها، وعندما كنا هناك وفي ضيافة أحد المستشارين للسلطان عرفنا انه كان يوجد خلاف مع قبيلة العزيبة من الصبيحة وسيأتون يشتبكوا معه في منطقة صبر "، فقال محدثي بانه قرر بسرعة العودة الي عدن لتفادي المصائب ولكنه تفاجأ بان والدنا عبدالباري قاسم رده بضرورة متابعة الموقف من منظور صحفي استقصائي يهدف لتغطية الوقائع ونشرها، لكونه صحفيا ومراسلاً استقصائياً بامتياز، فقلت لعبدالباري هذا جنون وهربت الى الشيخ عثمان مع فترة مابعد الظهر، ثم عاد عبدالباري الساعة السابعة والنصف مساءً، ويقول له صورت كل الاحداث واللقاءات والحمدلله الجماعة لم يتقاتلوا بل سدوا بحكمة وعقل تدخل سلطان لحج في الموضوع.
المحطة الرابعة: عندما حدثت حرب 1956م وكان عبد الباري قاسم وفيصل عبد اللطيف وعبدالله الخامري وعوض الحامد في القاهرة وتقدموا لطلب المشاركة في حرب التحرير، ولكن القوات المصرية رأتهم شباب وكانوا في تنظيم حركة القوميين العرب فاقترحت الجهات المنظمة للمتطوعين في القتال بانه يتم تأطيرهم في خدمة الاحتياط العام ولكنهم اصروا وسمح لعبدالباري فقط في التقدم لخدمة الدعم الاسعافية لنقل الجرحى للجبهة في قناة السويس.
المحطة الخامسة والاخيرة: واقعة اتذكرها والتي حكتها والدتي أطال الله بعمرها، بأن والدي أيام التدريس في المدرسة الشرقية (كان أستاذاً لمادة التاريخ) وأخاه الاستاذ نور الدين قاسم( أستاذاً لللغة الانجليزية ) وزمليه الاستاذ عبد الله حاتم( استاذ التربية الدينية) حيث كانوا من نخبة أساتذة عدن وكانت تملا اجواء المدرسة روح العلم والودية والانضباط، الا انه كانت هناك قفشات من المزاح بين أعضاء هيئة التدريس، حيث كانوا يصنعون لبعضهم البعض المقالب وتنتهي بسلام وود. لكن أحد الاساتذة قرر وضع مقلبا لاحد زملاءه وكان قويا، فقرروا الزملاء تأديبه حيث وضعوا له سحلية صغيرة بالعدني نسميها (وزغة) في صينية الحليب- في الحقبة البريطانية كان يعتمد نظام التغذية بالمدارس وتصرف وجبات ومشروبات كالحليب والعصار، تدعيمية أثناء الدوام الدراسي للأتلاميذ والمعلمين- وعندما أكتشف ذلك المعلم المقلب كاد يشتبك معهم وحينها تدخل الاستاد نور الدين قاسم والاستاد عبد الله حاتم الذين تميزا بالحكمة والمصالحة بين الجميع وفرضوا غرامة على الطرف الذي تسبب بالخلاف ان يدفع قيمة القراع (الفطور) فاصوليا وشاهي بالحليب لجميع الاطراف بما فيهم الحكام. هكذا كانت تقاد الاجواء بالودية والمزح كما يسموها بالعدني قلبه بقلبة.


أ.د. وليد عبدالباري قاسم صالح
أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية المشارك
كلية المجتمع /عدن