آخر تحديث :السبت - 18 مايو 2024 - 11:27 ص

كتابات واقلام


30 نوفمبر الذكرى 56 لاستقلال جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية

الخميس - 30 نوفمبر 2023 - الساعة 07:26 م

د. وليد عبدالباري قاسم
بقلم: د. وليد عبدالباري قاسم - ارشيف الكاتب



في 30 نوفمبر من عام 1967 م، تحقق الاستقلال الوطني لجنوب اليمن بعد كفاح مسلح لمدة أربع سنوات منذ إنطلاقة ثورة 14 اكتوبر 1963- أشترك فيه فصيلين مسلحين هما الجبهة القومية وجبهة التحرير- غادرت بريطانيا منهزمة مكسورة بشكل دموي وعنيف ومذل مقارنة ببعض الدول التي خرجت منها بهدوء وتفاهم وتنسيق ورضى أكبركما حدث في مصر او دول الخليج العربي حيث كانت المغادرة ضمن اتفاقيات وخطط للتسوية، حافظت على ماء وجهها مع إستمرارية للتعاون وتحقيق برامج التنمية وإستقرار إدارة السلطة ، للأسف الشديد في جنوب اليمن ساد المشهد الدموي في عدن مركز السيطرة والأرياف بضواحيها، بعمليات عسكرية .منذ ذلك التاريخ جرت في ماء النهر الكثير من الاحداث حتى قيام سلطة مستقلة تلاها نزاعات إلى مستوى دموي عنيف جدا ادى إلى الاضرار بالوحدة الوطنية – وسمعة التجربة والانجاز بتحقيق النصر- وخسارة الكثير من الكوادر واستنزاف الموارد ويمكن ان نسجلها بدءا وقبل الاستقلال حتى باسابيع عندما تفجرت معركة شوارع داخل عدن مطلع شهر نوفمبر 1967 بين كل من الجبهة القومية وجبهة التحرير وسقط من كلى الطرفين خيرة شبابها المناضل.
لايمكن لنا هنا في هذه المقالة المتواضعة بحيز محدود للنشر من تناول قضايا كبرى ولكن في الذكرى نكتفي باثارة جملة من التساؤلات والمرور السريع – وللاسف قد يكون انتقائيا – لبعض المحطات والمنجزات التاريخية. واولا وقبل كل شيء لايمكن ان نتجاهل البعد الجغرافي لموقع اليمن على ممرات دولية حساسة ومهمة جدا للمصالح الحيوية للقوى الكبرى وهذا في نظرنا من الموضوعات التي بحاجة لمبحث متخصص بذلك الاثرعلى فهم طبيعة الصراعات الداخلية وتاثرها بموازين القوى انذاك حيث نلاحظ دوما حدوث تماثل مع المنظومات السياسية في الحرب الباردة وإنعكست بصمات ولصقات سياسية توزعت بين اتهامات بالانتماء للتيارات اليمينية والقوى الرجعية ( كما صنف به الرئيس قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف ورفاقهم الذين اطيح بهم في إنقلاب 22يونيو 1969 أو التطرف اليساري الانتهازي( كما صنف سالم ربيع وباعوم وجاعم ورفاقهم في إنقلاب يونيو1978 )تعددت المسميات والهدف واحد هو الصراع على السلطة والاستئثار بالنفوذ والموارد بشقيها المادي والبشري بدءاً من الصراع الكلاسيكي في بنية المنظومة الثورية العالمية المتعارف عليه في المراجع التاريخية ( الصراع بين الجناح السياسي و الجناح العسكري الفدائي) وإنتقالا وتحولا دراماتيكيا ومنطقيا ومأساويا الى صراع قبلي مناطقي وشللي تعصبي في اسسه البنيوية والوظائفية.
وعليه ينطرح هنا السؤال المنهجي التاريخي الهام، هل تحققت في تلك الفترة منذ نيل الاستقلال في نوفمبر 1967 وحتى الوحدة في مايو 1990 وهو ما يمكن ان نحدده بفترة عشرين عاما كعمر يانع لدولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التنمية والانجازات والطموحات والاهداف المعلنة والمنشودة لثورة 14 اكتوبر؟ .
للامانة لا يمكن إنكار بعض المنجزات الثورية والتي إختصرت وإختزلت اشواط كثيرة كمسالة تحرير المجتمع من علاقاته التقليدية القديمة وان كانت بصورة عنيفة وحادة – كما يسمى العلاج بالصدمة- من خلال تحرير الارض ورفع شعار الارض لمن يفلحها وتحرير الريف من السيطرة الاقطاعية أو على الصعيد الاجتماعي من خلال مشروع تحرير المرأة –باعتبارها نصف المجتمع المشلول- كانت قفزة عن واقعنا التقليدي المحافظ ، حيث جرى رفع شعار تمكين المراة في كل مفاصل الدولة والمجتمع وتمثيلها في كل مؤسساته السياسية والعسكرية والانتاجية والقانونية ولعل من اكبر الانجازات في هذا الصدد صدور قانون الاسرة في عام 1975م حيث أعطى صلاحيات كثيرة للمرأة والأسرة كذلك قانون الطفل اليمني وقانون الشباب حيث مكنت هذه القوانين هذه الفئات الواعدة بنيل الكثير من استحقاقاتها، صحيح انها كانت متواضعة وفقا لمستوى التنمية ولكنها كانت سباقة في حصولها على مستوى المنطقة والواقع اليمني. ونذكر هنا على سبيل المثل لا الحصر بعض من الاشارات للانجاز مثلا في مجال التعليم حقق انجاز كبير ولا ننسى ان منظمة اليونسكو سجلت أن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية خالية من الامية عام 1985م وعلى المستوى التعليمي تم إبتعاث أكثر من عشرة الف طالبا وطالبة الى جامعات ومعهد دول الكتلة الشرقية ( الاتحاد السوفيتي، المانيا الديمقراطية، رومانيا ، المجر، بلغاريا، كوبا)بالاضافة الى المبعوثين في السلك العسكري حيث تم بناء جيش وطني حديث وتم تأهيله حيث ارسل الالف من الضباط إلى دول (المعسكر الاشتراكي أنذاك او مايعرف بدول اروبا الشرقية ) حيث تدربوا على قيادة مختلف أنواع الاسلحة كالمدرعات والطائرات والقطع البحرية الحربية، بالإضافة إلى الاهتمام- المفرط - بالبناء المؤسسي الحزبي والسياسي الكبير الذي انشاء لتغيير الوعي الاجتماعي بأفكار علمية حديثة متطورة- رغم ما قد تكون فيها من مبالغات وتجاوزات لاتحصر في مستوى الفهم والملائمة على البيئة المحلية-، فهذه الاشياء لا يمكن إنكارها . كما وجرى من جانب اخر تنظيم اقتصاد موجه للنموذج الاشتراكي وحاولوا بإخلاص كبير لتطبيقه ولكن لم يكن التحليل الموضعي في رأينا لان البلد وطبيعته كان غير مستعد لهذه النقلة ولم يحصل تطوير للبنية الاقتصادية بحيث تؤثر على استمرار ديمومة هذا النموذج، بالطبع ان الانكسار الذي حصل في الاتحاد السوفيتي وانهزام المنظومة الاشتراكية بالكامل مع مطلع التسعينات –من وجهة نظرنا- القى بظلاله الكامل حيث انهارت معظم الدول التي عرفت بذات التوجه الاشتراكي انذاك – الهشة البنية السياسية الاقتصادية والاجتماعية مثل اليمن الديمقراطي، افغانستان و اثيوبيا- التي كانت تسبح في فلك المنظومة الاشتراكية.
مجدد أحب ان أعود هنا- رغم ضيق الحيز الزمكاني للنشر- الى صياغة جملة من التساؤلات التي تظل بلا إجابات والذي أقترح ان تكون عناوين لدراسات في المستقبل للزملاء المتخصصين في التاريخ والباحثين، وأتمنى من جامعة عدن (أقسام التاريخ من خلال توجيه طلاب الماجستير والدكتوراه للاهتمام بالتاريخ الحديث لليمن الجنوبي لتكون هذه الرسائل ذات قيمة تتجاوز هدف نيل الشهادة العلمية الى وسيلة مرجعية لتوثيق الكثير من التاريخ المفقود لجمهورية اليمن الديمقراطي).
ربما طبيعة عملي كاستاذ وباحث اكاديمي قد تسمح لي للاسترسال هنا في أقتراح بعض التساؤلات مثلا:
-ما هي الاسباب التي أدت لقيام الثورة في جنوب اليمن وبهذا الشكل العنيف ولماذا لم تكن سلمية رغم ان عدن كانت مدينة متطورة ومزدهرة وتسمى (نصف لندن-Half London) فهل يعود ذلك إلى ضعف وهشاشة تركيبة القوى المدنية الحضرية في عدن التي نشأت كثمرة للتطور الصناعي للوجود البريطاني مقابل البيئة الريفية المحيطة بعدن الاكثر فقرا وتخلفا وكثافة سكانية؟( واقصد هنا بهذه القوى كل التيارات السياسية الموجودة بالساحة انذاك في عدن والتي شاركت بالعملية السياسية وقادة الحكومات المحلية وخصوصا في نهاية الخمسينات وحتى الاستقلال ومنها ايضا النقابات والصحافة والاحزاب.)
وهل تلك القوى لم تكتسب النضج والمهارة والحكمة والفهم والادراك السياسي اللازم لادارة العملية السياسية للانتقال التدريجي من حكم النفود البريطاني المفضي الى الاستقلال كما جرى مثلا في مصر؟
-أم هل التأثير للحرب الباردة والتنافس الشديد والبحث عن موطن قدم للقواعد العسكرية الاجنبية في عدن و استبدال الوجود البريطاني بالاتحاد السوفيتي كان هو هذا السبب؟ وهل ذلك ضمن تبادل قطع الشطرنج بين القوى الكبرى ومنافساتها الخفية علينا على الاقل -التي لايعلم بها الا الله ومخططوها- واقصد هنا الخروج المرتب لبريطانيا من عدن ودخول السوفيت مقابل اغلاق قناة السويس في توقيت زمني محكم من حرب الايام السته في حزيران( ثم عملية الاستيلاء على كريتر يونيو 67م وتواجد خبراء روس انذاك بعدن بحجة سقوط قمر صناعي بخليج عدن؟! )
-أم هل البنية القبلية والقروية بطبعها العصبي والمسلح كان خلف تلك الاندفاعات المدمرة للذات والاخر؟ هو ما اعجز النخب الفكرية والمثقفة في عدن طوال المراحل المختلفة عن صناعة قالب سلمي يقود السفينة ويوازن بين المصالح الوطنية والتطلعات الثورية والشعبية والرؤية المستقبلية لاستقرار الوطن والاستفادة من التكنولوجيا والحضارة الرأسمالية الصناعية؟ هل فشلت النخب السياسية ولم تستطع ان تكرس ذلك؟ هل الطموحات الشخصية لهذه القيادات وحبها ونرجسيتها للتنافس على السلطة والاستئثار كان اقوى من المقترحات والمشاريع والطموحات السياسية المرفوعة كيافطات للاستهلاك الظرفي الانتهازي قصير المدى؟ ام هل كانت المؤامرات الخارجية هي اقوى من القوى الداخلية؟ وهل كانت القوى الشعبية في المجتمع مدركة لما يحصل ومؤيدة، أم كانت مغيبة بسبب الجهل وعدم الفهم :ولنا في النكته المختزلة لواقع الجهالة عبرة " خروج المسيرات تحت شعار "تخفيض الراتب واجب"، وعند نهاية الشهرواستلامهم لراتب اقل لم يعرفوا ان الراتب هو المشاهرة ".
-هل كان بالامكان تلافي هذه الصراعات التناحرية الحادة التي حصلت في عام 1969م للإطاحة بأول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال قحطان الشعبي ويليه من ثم في عام 1973م بتفجير طائرة الدبلوماسيين والتي كانت تقل خيرة كوادر البلد من وزراء وسفراء ومن ضمنهم والدي الشهيد عبدالباري قاسم وزير التربية الاسبق وعمي نور الدين قاسم محافظ محافظة عدن الاسبق وثلة من خيرة الصف الاول من قيادة الثورة منهم وزير الخارجية محمد صالح عولقي وسيف الضالعي وزير الخارجية الاسبق ومحمد صالح الشاعر وزير الزراعة الاسبق ومحمد ناصر رئيس وكالة انباء عدن ومحمد ناجي اليافعي أول رئيس جهاز امن لعدن بعد الثورة واخرين ، ثم العام 1978م وما عرف باحداث (سالمين- الرئيس سالم ربيع) وتلاها في عام 1986م ذلك الانقلاب الدموي الذي يفوق الخيال في وحشية تصفية رفاق الدرب داخل قاعات الاجتماعات الحزبية – دون اعطاء اي اعتبار واحترام وتقدير لكل السنوات التي حرصوا على تلقين الناس فيها باهمية العمل السياسي والحزبي، إنها بحق أكبر أزمة أخلاقية وفكرية لحالة عدم الاتزان النفسي للشخصية اليمينة تجلت في تلك المذبحة والتي خلفت من وراءها الكثير من القيادات العسكرية والمدنية التي جرى تدريبها وتأهيلها طوال سنوات عمر الدولة الوليدة للأسف وكانت بحق بمثابة كارثة وإنتحار سياسي لم تلقى من بعده عدن ومحافظات الجنوب اي عافية، وتتجرع عواقبه حتى اليوم ولزمن بعيد قادم لطالما لم يحصل على الترياق المناسب لذلك الداء العضال. على ان ماجرى لاحقا وهو امتدادا طبيعيا لما سلف ذكره من محاولة فك الارتباط او الانفصال الفاشلة وغير المدروسة والمتهورة التي تمت في صيف 1994م والتي أدت عواقبها الكارثية الى تصفية تجربة الجنوب كليا، فهل تلك الاحداث كانت نتيجة حتمية لمسؤلية القيادات السياسية والنخب المحلية أو المجتمع على الصعيد المحلي اليمني أو هي ابعد من ذلك الى المستوى العربي و العالمي؟
-هل تمتلك القوى والنخب السياسية اليوم القدرة على أن تعطي تحليل وتشخيص لكل هذه السلسلة من الاحداث بحيث نستطيع أن نعرف ما يحدث اليوم ونستطيع أن نرسم رؤية وخارطة الطريق للمستقبل ونتجاوز الالام ، ولنا ان نتمثل بذلك كالمهندس الذي بمدى قدرته ومهارته التقنية العالية يستطيع أن يدرك ما هو الخلل لدى الجهاز او المنشاة التي يعاينها وإصلاحه ، ونفسه الحال مع الطبيب الذي يمكنه ان يشخص لنا طبيعة المرض وخطورته ومن ثم التدخل العلاجي المناسب إنها حلقات مترابطة إن ادركناها حينها نستطيع أن نبني مستقبل أفضل لبلدنا وأجيالنا القادمة.
أترك هذه الأسئلة للأجيال القادمة لتجيب عنها،فحساسية الظرف الحالي المعيق قد لا تساعد على تقديم ردود موضوعية خصوصا مع غياب الاهتمام بمصادر التوثيق والامكانيات المتاحة للبحث العلمي الرصين والموضوعي وغير المنحاز ناهيك عن انشغال الكل بضنك الحياة وشظفها.
ومع كل ذلك تظل الاماني تواقة ومتطلعة الى المستقبل حينما تكون الفرض الاكبر والوعد بمزيد من الحرية لمجال الدراسة والبحت عن هذا الموضوع وحيث تعطى المؤسسات الاكاديمية والعلمية الدعم الكامل لتبني هذه الدراسات التاريخية المهمة لبلدنا ومستقبل اجيالنا المتحمسة والذكية والمبدعة.


أ.د. وليد عبدالباري قاسم
أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية المشارك
كلية المجتمع/ عدن