آخر تحديث :الجمعة - 19 أبريل 2024 - 08:24 ص

تحقيقات وحوارات


إعلامي بتلفزيون عدن يتذكر : الحقوا الطائرة قبل ما تقلع !

الإثنين - 23 ديسمبر 2019 - 10:21 م بتوقيت عدن

إعلامي بتلفزيون عدن يتذكر : الحقوا الطائرة قبل ما تقلع !

كتب/ أحمد محمود السلامي

كانت تلك زيارتي الثانية لمحافظة المهرة ، فقد كُلفت من قبل قيادة تلفزيون عدن بالسفر الى الغيظة منتصف شهر نوفمبر عام 1987م لإجراء عدد من الاستطلاعات واللقاءات مع العمال المبرزين في مرافق العمل والانتاج وكذا تسجيل مقابلات مع المسئولين في المحافظة وبالذات سكرتير منظمة الحزب والمحافظ وعدد من القيادات النقابية والنسوية لغرض عرضها في التلفزيون بمناسبة الذكرى العشرين لعيد الاستقلال ، انطلاقاً من اهتمام التلفزيون بهذه المحافظة البعيدة والمنسية اعلامياً ، رافقني في هذه المهمة المصوران ناصر المنصوري و احسان صالح .
وقبل السفر بفترة مناسبة كنت قد حملت رسالة رسمية من مدير عام هيئة الاذاعة والتلفزيون (عبدالرحمن عمر السقاف) موجهة الى قيادة المحافظ عبر مكتب اتصال المهرة الواقع في كريتر بجانب وزارة الادارة المحلية (مكتب الشؤون الاجتماعية حالياً ) هكذا جرت العادة من تسهيل مهمة الفرق الاعلامية وتوفير السكن والغذاء والتنقل في المناطق البعيدة خاصة وانه لا تصرف لنا بدل سفر ، بعد ان حجزنا تذاكر السفر في طيران اليمدا انتظرنا اكثر من اسبوع ولم يأتي الرد من المهرة ولا توجد اتصالات تلفونية او فاكس في ذلك الوقت ، بقي امامنا يوم واحد طُلب منا السفر على اعتبار ان الرسالة لم تصل وهذا كان الاحتمال الاقوى الذي سقط عند وصولنا.
غادرنا عدن في صباح اليوم التالي على متن طائرة البوينج 737 حاملين امتعتنا ومعدات العمل (كاميرا ، ميكرفون ، بطاريات ، إضاءة ، ومسجل صوت صغير ) وفي جيب كل واحد منا مبلغ شخصي لا يزيد عن 25 دينار (500 شلن) اخذناها لشراء بعض الهدايا من الغيظة التي كانت بعض دكاكينها الصغيرة المبنية من الطين واللِبن تبيع الكثير من السلع المهربة من عُمان والساحل الافريقي ، مثل المعلبات والعطور والملابس ولعب الاطفال والبسكويت والسجاد وغيرها ، وكانت في تلك الفترة اسواق عدن خالية من تلك السلع .
وصلنا مطار الغيظة بعد ساعة واكثر ، لم نجد من يستقبلنا ! قلنا يمكن سيارة تنتظرنا في الخارج لكن خاب املنا وايقنا بانه لا يوجد من يستقبلنا ، اوقفنا سيارة شاص مكشوفة خرجت من المطار تحمل سِلاَل مملوءة بالخضار تابعة للجيش ، ترجينا الضابط الذي كان يجلس بجانب السائق بعد ان عرفناه بأنفسنا بان يقلنا الى مبنى المحافظة الذي كان حينها الاخ أحمد عبدالله المجيدي ، اخبرنا حارس البوابة بان المحافظ غير موجود (مسافر) ، مشينا صوب مقر منظمة الحزب الاشتراكي القريب من المبنى ، اوضحنا لحراسة البوابة اننا من تلفزيون عدن جئنا في مهمة رسمية ونريد مقابلة السكرتير الاول الاخ سعيد باظروس ، طلع احد الحراس الى الطابق الثاني وغاب بعض الوقت ونزل معه شخص اسمه سالم وكنيته (ابو لطفي) كان احد المسؤولين الحزبين الكبار في المحافظة وقال : نعتذر لعدم استضافتكم وتسهيل مهمتكم والحقوا الطائرة قبل ما تقلع ! وبينما نحن في شد وجذب معه سمعنا هدير محركات الطائرة وشاهدناها وهي تقلع من المطار الذي لا يبعد كثيراً عن المدينة ، طلبنا منه مقابلة السكرتير الاول لكنه رفض رفضاً قاطعاً وتركنا وذهب ، التفت الى زميليّ وقلت لهما : ما العمل ؟ مسألة العودة الى عدن مستحيلة وعلينا انتظار رحلة اليمدا اربعة ايام .. قال ناصر المنصوري : نحن معك فيما تراه مناسب ، و اومأ احسان برأسه موافقاً .
كنا في حيرة كبيرة في ذلك الموقف الصعب والوضع الذي لا يحسد عليه .. قررنا اولاً الذهاب الى الفندق واقلنا احد المارين بسيارته (تعبيرة) الى الفندق العتيق والوحيد في المدينة ، وهناك في غرفة مهترئة اخذنا قسط من الهدوء والتفكير في امرنا ، كان حرصنا على انجاز حتى ولو جزء من مهمتنا وهو همنا الاول ، كان امامنا حل واحد فقط وهو الخروج قبل المغرب الى السوق حيث المطعم الشعبي (مقهاية) الذي يأتي اليه بعض ابناء عدن ولحج العاملين في المطار والذين تعرفت عليهم في زيارتي الاولى للمهرة وعندهم سيارة حكومية وبالتأكيد سيساعدوننا قدر المستطاع .. خرجنا الى المطعم وانتظرنا لعلى وعسى نجد ما نفكر فيه .. وفعلاً حضر شاب يدعى أحمد اللحجي يعرفه ناصر المنصوري كان يعمل في التعاونية الاستهلاكية ، سلم علينا وتعارفنا واخبرناه بما حصل لنا ، طبعاً ابدى استعداده والتنسيق مع مدير التعاونية لعمل استطلاع تلفزيوني عن التعاونية ، وسألني هل يقرب لك المهندس ابوبكر محسن السلامي الذي يعمل في محطة تأجير الأليات الزراعية هنا ، قلت له : نعم يقرب لي وهو صديقي .. قال : هو يأتي كل يوم الى هنا في مثل هذا الوقت .
وفعلاً اتى ابوبكر وسلم علينا بحرارة خاصة وانني لم اراه منذ سنوات ، حكينا له الموقف وضحكنا كلنا على عبارة ابو لطفي " الحقوا الطائرة قبل ما تقلع " ابوبكر هو دائماً صاحب واجب وخدوم ، اخذنا ثاني يوم الى محطة التأجير بسيارة العمل ( لاندروفر قديمة) وهي عبارة عن ورشة متنقلة فيها ماكنة لحام ومعدات متعددة ويوجد فيها مقعد واحد بجانب السائق ، قمنا بالتصوير هناك واجراء اللقاءات مع مدير المحطة وبعض العاملين وطلبنا منه يوفر لنا سيارة الى نشطون حيث يوجد ميناء الاصطياد وحركة العمل والانتاج ، لكنه اعتذر بسبب بعد المسافة واقترح عليه ابوبكر مكان آخر وهو مركز تغليف وتجميد الشروخ التي يتم تصديرها الى الخارج ، وافق المدير على هذه الفكرة ، ووفر لنا سيارة الى منطقة ضبوت حيث يقع المركز ، وهناك انجزنا عملنا على خير ما يرام بمساعدة مشرف المركز زميل الدراسة في كلية عدن عبدالكريم عبد ، الذي أعد لنا وجبة عشاء فاخرة عبارة عن ( خبز طاوة وطاجن مطفاية شروخ ) بعدها عدنا من ضبوت الى الغيظة .
في اليوم التالي حاولنا التنسيق مع بعض قيادات المنظمات الجماهيرية دون جدوى فقد سبقنا اليهم ابو لطفي ووجههم بعدم الاستجابة والتعاون معنا ، ولهذا قمنا بإجراء لقاءات دون تنسيق في شوارع الغيظة الترابية مع المواطنين وبعض ابناء المحافظات الاخرى العاملين هناك . عندما انتهينا من عملنا في ذلك اليوم كان لابد من مقابلة الرفيق باظروس لمعرفة اسباب عدم استقبالنا وعرقلة مهمتنا ، توجهنا الى مكتبه ولحسن حظنا لم نجد ابو لطفي هناك وتمكنا من الدخول اليه ومقابلته ، وكان زعلان من التلفزيون لعدم تلبية طلبهم وارسال فريق لتغطية مهرجان سباق الهجن الذي اقيم قبل شهر بمناسبة 14 أكتوبر وانهم قرروا عدم استقبال اي فريق تلفزيوني من عدن ، طلبت منه منحنا مذكرة تتضمن هذه الاسباب حتى لا نتعرض لأي اجراء اداري من قبل ادارة التلفزيون بسبب تقصيرنا في انجاز المهمة ، في بداية الامر رفض وبعد إلحاح والرجاء وافق ، وقبل الدخول إليه كنت انا قد وضعت مسجل الصوت داخل حقيبة يد صغيرة في وضع تسجيل نستخدمه في حالة فشلنا في الحصول على المذكرة المطلوبة .
عدنا في اليوم التالي جواً الى عدن ونحن فرحين نشعر بنشوة النصر على الظرف الصعب الذي واجهناه ، وعندما قابلنا مديرعام هيئة الاذاعة والتلفزيون في اليوم التالي وسلمناه المذكرة تعجب من التصرف الغير مسؤول لسكرتير الحزب ، واثنى على جهدنا الذي قمنا به هناك وأمر لنا بصرف مكافأة متواضعة تاه امرها في مكتب الضابط الاداري عبدالحميد الدقم (الله يرحمه) .
هذه الحكاية تذكرتها وكتبتها اولاً : تخليداً لذكرى زميلنا وصديقنا المصور الرائع ناصر احمد المنصوري الذي غادرنا الى العالم الاخر قبل اكثر من شهر بعد معاناة طويلة من المرض ، ليلتحق بكوكبة من زملائه الذين رحلوا خلال الخمس سنوات الماضية .
ثانيا : ليعرف الجيل الشاب في تلفزيون عدن والاعلاميين بشكل عام ، كيف كنا نعمل في ظل الظروف الصعبة والامكانيات الشحيحة والتكنولوجيا المتخلفة ، ومع ذلك كنا نتغلب عليها وننجز أعمالنا ، بعكس ما هو عليه اليوم ، كل شيء متوفر والتقنيات عالية السرعة والجودة ، والاتصالات لم يسبق لها مثيل في التاريخ ناهيك عن المواصلات والطرقات والفنادق ووسائل الترفيه الاخرى .
ـــــــــــــ