آخر تحديث :الخميس - 09 مايو 2024 - 12:37 ص

ثقافة وأدب


قراءة في رواية " الطوفان" للأديب والشاعر مبارك سالمين

الأربعاء - 20 مايو 2020 - 03:20 م بتوقيت عدن

قراءة في رواية " الطوفان" للأديب والشاعر مبارك سالمين

د. شهاب القاضي

القسم الأول : البنية السردية في رواية الطوفان او(مررت بها كما تطلبتني) للأديب والشاعر الكبير مبارك سالمين.

الرواية العربية كانت ولاتزال، في تيارها الأعرض،
رواية سيرة ذاتية جورج طرابيشي - المثقفون العرب والتراث.

ان السرد بأشكاله اللانهائية تقريبا ، حاضر في كل الأزمنة ،وفي كل الأمكنة، وفي كل المجتمعات ؛ فهو يبدأ مع تاريخ البشرية ذاته؛ ولايوجد أي شعب بدون سرد
رولان بارت - التحليل البنيوي للسرد

توطئة :
متى يكتب الشاعر بدلا من القصيدة رواية ، او بالاحرى متى وكيف يختار المبدع وسيلة اخرى للتعبير عن مشاعره وأفكاره غير الذي اعتاد عليها ؟السؤال /الظاهرة ، فقد شهدت الثقافة العربية هذه التحولات إذ كتب النقاد روايتهم او قصائدهم واصدروا الدوواين كما كتب الشعراء روايتهم وخاضوا في مجال النقد الادبي و الكتابةالمسرحية وكتب الروائيون شعرا" وغير ذلك من حقول الكتابة والابداع. وليس لي ان ادلل هنا على ذلك ؛ اذ لا تسمح هذه البرهة في الاستفاضة والإسهاب ولكن يلجأ الاديب الى تغيير وسيلة القول / الرسالة /الرؤيا عندما يدرك انه بحاجة الى تغيير شكل القول وانه الأن بصدد إستيعاب ممكنات جديدة لقول جديد ، راهني واساسي.
هذا مافعله الاديب والشاعر الكبير مبارك سالمين عندما اختار ان يظهر لنا كاتبا روائيا ، وهو مالم نعهده من الشاعر العدني من قبل ، في روايته الطوفان (1) التي تضمنت ايضا عنوانا ثانويا ( ...، مررت بها كما تطلبتني ) وهي رواية سيرية او سيرة روائية كما يشير الى ذلك غلاف الرواية ، لم يشأ مبارك ان يجعلها سيرة ذاتية تعتمد على المرجعية الواقعية ولكن ارادها سيرة ذاتية مظفورة بنسيج تخيلي فلا نعرف اين تقف الوقائع او نعرف متى يبدأ الخيال لكنها في كل الاحول تسرد وتتحدث عن احداث وامكنة وشخصيات وتاريخ عشناه معا نحن من جايلناه ونعيشه معا، نحن من نشاركه حتى اليوم كل ذلك التيه والآلآم وإختبارات لا تحصى للارادة التي مازالت تقاوم .

في مفهوم السيرة الرواية :
يبدو هذا المفهوم من الخارج ، انه يجمع بين جنسين من السرد : السيرة الذاتية والرواية مما جعل العديد من الكتاب يبذلون جهودا في اجلاء هذا اللبس الافتراضي الذي تعكس الاعمال المنجزة تحت هذا المفهوم ما اعتبرناه هجين بحسب تعبير د. عبدالله ابراهيم إذ يقول ( السيرة الروائية ممارسة ابداعية مهجنة من فنين سردين معروفين: السيرة والرواية. لا يقصد بالتهجين معنى سلبيا، إنما التركيب الذي يستمد عناصره، من مرجعيات معروفة، وإعادة صوغها وفق قواعد مغايرة) وهو يمنح هذا النوع الادبي تفوقا في اسلوب القول ، وكثافة نوعية في اسلوب السرد ( والسيرة الروائية هي "نوع" من السرد الكثيف الذي يتقابل فيه الراوي والروائي، ويندرجان معا في تداخل مستمر ولا نهائي، يكون الروائي مصدرا لتخيلات الراوي، الكيان الجسدي والنفسي والذهني للروائي يشرح، ويعاد تركيبه، التجربة الذاتية تشحن بالتخيل، توفر هذه الممارسة الابداعية حرية غير محدودة في تقليب التجربة الشخصية للروائي، واعادة صوغ الوقائع واحتمالاتها، وكل وجوهها، دون خوف من الوصف المحايد والبارد للتجربة، ولا الانقطاع التخييلي عنها) (2) انه المزج اذا" بين التجربة الذاتية الواقعية وبين الخيالي مما يتيح للكاتب مساحة واسعة من حرية القول ، والتعبير الحر عن ارائه ومواقفه ، ويشير سعد محمد رحيم الى ذلك بالقول ( فإذ تقتحم المخيلة معقل التاريخ، في خضم الكتابة السردية/ الروائية فإنها تُخضع النص المكتوب لنزوتها، وتسبغ عليه عنصر المرونة، وتغريه بالحرية والانزياح عن المألوف.. وهذا التواطؤ بين الراوي والروائي، أو بين المخيلة والواقع التاريخي، في إطار النص السردي يخفف من ثقل التاريخ، وينقذ الروائي من حراجة الاعتراف المباشر) (3) مع ذلك فانه مسؤول عما بنجز جماليا ودلاليا إذ ينحت بازميله ويرسم بفرشاته هذا التزاوج الجميل بين السيرة الذاتية والراوية في محمولها الخيالي في إنجاز الخطاب / النص بضمير المتكلم يقول ميخائيل باختين (المتكلم في الرواية اساسا"هو فرد اجتماعي ملموس ، وهو دائما بدرجات مختلفة منتج ايديولوجيا وكلماته هي عينة ايديولوجية).(4)

القسم الثاني :
في رمزية الغلاف و العنوان :
تهتم الدراسات الادبية الحديثة بالعنوان الرئيس والعناوين الفرعية والغلاف والاهداء وإلى كل مايشير الى مانسميه بالنص الموازي او العتبات بحسب جيرار جينيت الذي له كتاب بهذا العنوان ( paratexet) فالعنوان بالنسبة للرواية كالأسم بالنسبة للانسان او الأشياء ، ونظرا لهذه العلاقة فإن العنوان يظهر بوصفه جسرا تواصليا بين المؤلف والقارئ وانشداد القارئ إلى الرواية انما ينطلق من العنوان ، فعند اختيار العنوان فإن المؤلف له الحرية في اختيار التركيب اللغوي المناسب الذي يعبر عن الفكرة أو المعنى ... يقول جميل حمداوي ( يمكن الحديث عن أنواع عدة من العناوين، كالعنوان الخارجي الذي يتربع فوق صفحة الغلاف الأمامي للكتاب ، مشبعا بتسمية بارزة خطا وكتابة وتلوينا ودلالة، وغالبا ما يكون هذا العنوان مجاورا لعتبة المؤلف، وبجانبه العنوان الأيقوني البصري في شكل لوحة تشكيلية أو صورة مشهدية أو أيقونة سيميائية قائمة على الترميز والتدليل على الغلاف. ويؤدي العنوان الخارجي إلى جانب العنوان البصري عدة وظائف سيميائية، كوظيفة التعيين والتسمية، ووظيفة الوصف والشرح، ووظيفة الإغراء والإغواء، والوظيفة الإشهارية ،
ويوجد تحت العنوان الغلافي الخارجي ما يسمى بالعنوان التعييني أو التجنيسي، والذي يحدد جنس العمل الأدبي بمجموعة من التوصيفات النقدية التي تندرج ضمن نظرية الأدب، مثل: شعر، رواية، نقد، قصة قصيرة، رحلة...إلخ. ) . (5)
رواية الطوفان للاديب والشاعر الكبير مبارك سالمين حملت عنوانا مكونا من اسم واحد هو الطوفان وعنوان جانبي ( ...، مررت بها كما تطلبتني ) واسم الكاتب (مبارك سالمين ) في اعلى الغلاف والاسم التعييني او التجنيسي (رواية) في وسط الغلاف ، وعلى الغلاف ايقونة بصرية تشير الى بحر أزرق هائج الامواج يتقاذف سفينة شراعية لها شراع ابيض تظللها السحب البيضاء ومن بين طيات السماء تبرز وردة بيضاء شفافة تتصالب مع نقطة النهاية على محور الافق البصري البعيد وعلى اسفل الغلاف (إصدارات وزارة الثقافة - اليمن ) وفي الجانب المقابل ( مؤسسة اروقة للدراسات والترجمة والنشر ) .
فهل اختار الكاتب كلمة الطوفان عن عناية وتدبر، هل لها صلة بالنص بالسيرة الروائية التي انجزها وجعلها منذورة زمنيا خلال ثمان عشر سنة من عمر الكاتب (1977-1995) ماهي الكيفية التي وردت فيها كلمة طوفان في المتن وكم مرة ذكرت ؟
ذكرت كلمة طوفان في الرواية على النحو التالي :
1) وباختصار فإنها طوفان من الجمال انبثق من بركان عدن المقصود بذلك جميلة.. ص : 12
2) غمرنا طوفان من القبل .. ص : 78
3) وفيه الكثير من الجميلات ( كوريا الديمقراطية) غير ان "جميلة" عدن تلك تظل مميزة وعالية ، لأنها ليست من تراب وحسب ، انها من نار وهواء وماء وأحاسيس ، انها إبنة الأرض الحارة ، طوفان العطر ، جميلة التي لاحدود لها ...ص :100 -101
وقد ذكرت كلمة الطوفان بسياقات مختلفة عن السياقات السابقة في الصفحات التالية وهي تحيل الى طوفان الشمال على الجنوب طوفان النهب والسيطرة والاستقواء طوفان الجهل والظلامية يقول الكاتب :
4) لم يفطن احد ان طوفان الشمال سيغمر الجهات كلها وان السفينة ستصطدم بنهدي صنعاء وستتحطم هناك ... ص :106
5) ذهب الجنوبيون ولم يقل لهم احد (... اني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) الاعراف 59 وحتى لو قال لهم احد المبصرين فإنهم لن يصدقوه لأن هوى الوحدة كان في ذروته غير أن سفينتها .. ليست كسفينة سيدنا (نوح) عليه السلام، مصنوعة من خشب الجفر ومطلية بالقار كما جاء في وصفها في التوراة (سفر التكوين ) لقد ذهبنا تقريبا كالفراشات إلى حتفنا) . ... ص : 107
6) وأحسست أن طوفانا من الجهل والحقد والبلاء سيغمر هذه البلاد وسيعلمها معنى الغرق والتيه، موقنا بأن المدينة ستظل غارقة في السواد لسنين طويلة قادمة ......... ص :115

عبر الكاتب بكلمة طوفان عن الحب وهو ما يحيل الى الايجابي ، وعبر بالطوفان عن سياسة الفشل والاحتلال والنهب والتيه والظلامية التي يكرسها الواقع في حاضرنا ومستقبلنا وكل قطب منهما تكرر ثلاث مرات وكأن جميلة التي تتماهى مع عدن ، مدينة الفرح والسلام والتعايش بين الثقافات ، المدينة التي كانت تؤسس مستقبلا للانسان تم وأدها باسم الوحدة الفاشلة فشلا دمويا وكارثيا على الجنوب،واذا كان الكاتب قد اقتبس من الكتاب المقدس، العهد القديم ، من سفر التكوين للاشارة الى الطوفان فإنه يمكن ان نقتبس من الكتاب المقدس مايشير الى ان الطوفان تم في الشهر السابع ( يوليو)،وهذا يتوافق مع استكمال العمليات الحربية ضد الجنوب في 7/7 اي في شهر يوليو من عام1994. يقول الكتاب المقدس وَاسْتَقَرَّ الْفُلْكُ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ، فِي الْيَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ) الاصحاح الثامن من سفر التكوين والعدد :4 ..ويرمز للآية بــ (تك4:8) . فهل كانت مصادفة موفقة اختيار الكاتب لكلمة الطوفان بما تحمله من اشارات وعلامات يدعمها المتن وهل هي مصادفة ان تكون الكلمة مكونة من سبعة احرف (فونيمات) والفونيم هو حرف من حروف الأبجدية وهو اصغر وحدة صوتية والكلمة ( الطوفان ) اسم معرف بأل التعريف وهي( ال) الاستغراق التي تفيد شمولية حدوث الطوفان المدمر، ليشمل البنية التحتية والموارد البشرية للجنوب .
يتبع