آخر تحديث :الخميس - 05 ديسمبر 2024 - 03:17 ص

كتابات واقلام


أبعاد اتفاق بكين

السبت - 25 مارس 2023 - الساعة 04:53 ص

د. محمد علي السقاف
بقلم: د. محمد علي السقاف - ارشيف الكاتب


إعلان الاتفاق السعودي الإيراني في يوم الجمعة 10 مارس (آذار) الحالي، برعاية صينية لمفاوضات جرت في الصين بين 6 و10 مارس، فاجأت العالم بتوقيتها وأطرافها الموقعة على الاتفاق.
من أسباب المفاجأة أن جولات المفاوضات بين السعودية وإيران كانت تدور في بغداد وعمان، والمفترض إذا توصل الطرفان إلى تفاهم بينهما أن يتم الإعلان والتوقيع عليه، إما في بغداد أو في عمان، ولم يخطر ببال أحد أن يعلن ذلك من بكين.

وشاءت الصدف أن يتم في يوم الجمعة 10 مارس أيضاً توقيع الاتفاق تزامناً مع إعادة انتخاب الرئيس الصيني شي جينبينغ لولاية ثالثة رئيساً للبلاد مدتها خمس سنوات، وبالتالي هذا يعني ضماناً بحماية والحفاظ على بنود الاتفاق الذي تم توقيعه بين الطرفين في فترة ولاية الرئيس الجديدة. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني عندما نعود بالذاكرة أن الرئيس الأميركي الأسبق بوش الأب، هو من أرسى دعائم القطب الواحد في العلاقات الدولية في عام 1991، الذي أمن للولايات المتحدة بسط نفوذها على الشرق الأوسط في حرب الخليج الأولى بتحرير الكويت، وعقد لقاء بين أطراف النزاع العربي الإسرائيلي في مدريد، وفق تعهده للتحالف العربي الذي وقف معه في حملته ضد نظام صدام حسين. واعتقد بوش الأب أن هذا الإنجاز قد يساهم في بسط النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط ويدعم حملته للانتخابات الرئاسية لولاية ثانية.

ما حدث جاء عكس ذلك، حيث خسر ترشيحه في الانتخابات بفوز الرئيس بيل كلينتون. والأسوأ من ذلك أن الولايات المتحدة بغزوها للعراق في 2003 في عهد بوش الابن تلاشت تدريجياً سمعتها في الرأي العام العربي بما أفرزته نتائج غزو واحتلال العراق من نتائج كارثية، ليس فقط على العراق بذاته، بل على الأمن القومي العربي بصفة عامة، التي لا تزال آثارها قائمة حتى الآن رغم مرور عشرين عاماً منذ ذلك الحدث. وقد التقطت الحكمة الصينية الدروس من التجربة الأميركية التي كانت تروج دائماً أن منطقة الشرق الأوسط منطقة غير مستقرة في صراعات دائمة، ما أدى إلى تراجع اهتمامها بها، بل عملت على الانسحاب منها، والتوجه إلى الشرق لاحتواء الصين، والبحث في التمدد في أفريقيا السمراء، الذي تزايد فيها النفوذان الصيني والروسي.

أمام هذا المشهد العام للتنافس بين القوى العالمية الكبرى لاحتلال موقع الصدارة الدولية، ما الرابط بينه وبين الاتفاق السعودي الإيراني، وما مصلحة الأطراف الموقعة عليه؟

أظهر البيان الثلاثي المشترك، الذي صدر من بكين، والذي بموجبه تم الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وإعادة فتح سفارتيهما خلال شهرين، الاختلاف بين ما جرى في بكين مقارنة بما سبقه قبل ذلك في كل من العراق وسلطنة عمان.
فقد استهل البيان بالقول إن الجانبين السعودي والإيراني عبّرا «عن تقديرهما وشكرهما للعراق وسلطنة عمان لاستضافتهما (جولات الحوار) التي جرت بين الجانبين خلال عامي 2021 و2022. كما أعرب الجانبان عن تقديرهما وشكرهما لقيادة وحكومة الصين على استضافة (المباحثات) ورعايتها وجهود إنجاحها»، يعني ذلك أن ما جرى في السابق كان مجرد جولات حوار، أما في بكين فنظمت مباحثات. والاختلاف الآخر على سبيل المثال أن الجولات الخمس التي جرت في بغداد بوساطة رئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي كانت ثنائية الأطراف، بينما اتفاق بكين يعد ثلاثي الأطراف، ممثلاً بالصين طرفاً ثالثاً، وليس مجرد راعٍ للاتفاق، ولهذا أستطيع أن أسميه «اتفاق بكين بلس» من وجهة نظري. فقد أوضح البيان الثلاثي المشترك الذي صدر أنه جاء «استجابة لمبادرة من الرئيس الصيني شي جينبينغ، بدعم بكين، لتطوير علاقات حُسن الجوار بين السعودية وإيران، وبناءً على الاتفاق بين الرئيس شي جينبينغ وكل من قيادتي السعودية وإيران، بأن تقوم الصين باستضافة ورعاية المباحثات بين السعودية وإيران، ورغبة منهما في حل الخلافات بينهما من خلال الحوار والدبلوماسية… وتعلن الدول الثلاث أنه تم التوصل بين السعودية وإيران على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتيهما... خلال مدة أقصاها شهران... على أن يعقد وزيرا الخارجية في البلدين اجتماعاً لتفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء…»، وينتهي البيان نصاً بإعراب «كل من الدول الثلاث عن حرصها على بذل جميع الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي». جولات الحوار بين البلدين تطرقت بشكل أساسي إلى القضايا الأمنية، في حين أنه في «اتفاق بكين بلس»، وإن تم أيضاً الحديث عن «تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما الموقعة في 17 أبريل (نيسان) 2001»، فقد تناولت أيضاً مجالات التعاون في الاقتصاد والتجارة والاستثمار… ومع ذلك كان لافتاً أن الاتفاق لم يتم توقيعه من قبل وزيري خارجية البلدين، وإنما من قبل مسؤولي الأمن في كلا البلدين، حيث وقع الاتفاق من الجانب السعودي الدكتور مساعد العيبان وزير الدولة عضو مجلس الوزراء مستشار الأمن الوطني السعودي، ومن الجانب الإيراني الأدميرال علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني. ويتوسطهما وزير الخارجية الصيني. ومؤخراً أشير إلى أنه بمناسبة شهر رمضان تم الاتفاق بين الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي، وحسين أمير عبداللهيان، على عقد لقاء ثنائي بينهما قريباً، وذلك لتمهيد الأرضية لإعادة فتح السفارات والقنصليات بين البلدين.

والسؤال المطروح هنا عن دوافع الأطراف الثلاثة التي أدت إلى تحقيق هذا الاتفاق بين السعودية وإيران عبر الوساطة الصينية؟ ولماذا افتراضياً لم يقم القطبان الرئيسيان في العالم الولايات المتحدة وروسيا بالمبادرة ذاتها وقامت بها الصين بدلاً عنهما؟
يمكن القول باختصار إن المدخل الذي اتبعته الصين تأسس في الجانب الاقتصادي كأولوية لعلاقاتها مع دول منطقة الشرق الأوسط، في حين أن روسيا كان مدخلها إلى سوريا يتمثل في الجانب العسكري، والولايات المتحدة، ومعها عدد من الدول الغربية، كان الملف النووي هو الذي يعرقل عدم التوصل مع إيران إلى اتفاق يحول دون امتلاكها للسلاح النووي وتطوير قدراتها الصاروخية المتقدمة لضمان أمن منطقة الشرق الأوسط وأمن إسرائيل بدرجة أولى، دون الأخذ في عين الاعتبار تداعيات ذلك على أمن وسلامة دول الخليج العربية. المدخل الاقتصادي للصين يعود إلى اعتمادها على النفط والغاز من السعودية وإيران بنسبة لا تقل عن 40 في المائة من احتياجاتها من الطاقة، إضافة إلى وضع لبنة إضافية لإنجاح مبادرة «الحزام والطريق» الصينية. نجاح الصين في تحقيق الاتفاق بين قوتين إقليميين في الجزيرة العربية والخليج يمثل حدثاً جيواستراتيجياً وجيوسياسياً ينبئ بميلاد موازين قوى صاعدة على المستوى العالمي. وكان هذا سبب ودوافع السعودية وإيران لإبرامه لما لذلك من تداعيات في المنطقة والعالم.
وللحديث بقية

مقالة الدكتور محمد علي السقاف
صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ ٢٥ مارس ٢٠٢٣