آخر تحديث :الجمعة - 29 نوفمبر 2024 - 07:22 م

كتابات واقلام


30 نوفمبر: يومٌ لا يُنسى وحكاية لا تنتهي

الجمعة - 29 نوفمبر 2024 - الساعة 04:52 م

محمد عبدالله المارم
بقلم: محمد عبدالله المارم - ارشيف الكاتب


في مسيرة الشعوب نحو الحرية، تسجل التواريخ محطاتٍ فاصلة تبقى خالدة في ذاكرة الأجيال. ومن بين هذه المحطات، يأتي يوم الثلاثين من نوفمبر 1967 كأحد أعظم الأيام في تاريخ الجنوب. إنه اليوم الذي أعلن فيه أبناء الجنوب نهاية أطول استعمار في العصر الحديث. في هذا اليوم، غادرت آخر القوات البريطانية أرض عدن، ليُرفع علم الاستقلال إعلانًا ببداية عهد جديد من الحرية والسيادة الوطنية. لكن هذه اللحظة لم تكن مجرد حدث عابر بل كانت تتويجًا لمسيرة طويلة من الكفاح والتضحيات استمرت لأكثر من قرن، حيث تحدى فيها أبناء الجنوب كل مظاهر الهيمنة الاستعمارية، وأثبتوا أن الإرادة الشعبية قادرة على انتزاع الحرية مهما كانت التحديات

*الاحتلال البريطاني: بداية مشروع استعماري عالمي*
لم يكن الاحتلال البريطاني للجنوب مجرد صدفة عابرة، بل جاء ضمن مشروع استعماري استهدف السيطرة على مواقع استراتيجية حول العالم. ففي 19 يناير 1839، دخلت القوات البريطانية ميناء عدن بعد معركة قصيرة، ضمن سياق دولي اتسم بالتنافس الاستعماري على طرق التجارة البحرية. أرادت بريطانيا تأمين أحد أهم ممرات العالم البحرية، واستخدمت الجنوب كنقطة انطلاق لتوسيع نفوذها الإقليمي.

ومع دخول البريطانيين، فرضوا نظامًا استعماريًا صارمًا استهدف استغلال موارد الجنوب الطبيعية والاستفادة من موقعه الاستراتيجي. بدأ الاحتلال ببناء قواعد بحرية ومؤسسات إدارية، مكرسًا وجودًا طويل الأمد، بهدف تعزيز السيطرة العسكرية والاقتصادية. لكن هذا المشروع الاستعماري واجه مقاومة مبكرة، حيث رفض الشعب الجنوبي الخضوع، وانطلقت شرارة النضال رغم بداياته البسيطة.

*من المقاومة الشعبية إلى العمل المنظم*
في البداية، تمثلت المقاومة في انتفاضات محلية بسيطة، مثل معركة قلعة صيرة، التي قادها صيادو عدن بأسلحة بدائية، لكنها عبرت عن رفض الشعب للاستعمار. ورغم محدودية الإمكانيات، استمرت المقاومة الشعبية في التوسع، مستهدفة القوات الاستعمارية ومصالحها الاقتصادية.

وعلى مدى أكثر من قرن، حاول البريطانيون فرض نظام مستقر يعزز سيطرتهم، لكن الانتفاضات المتكررة أظهرت تصميم أبناء الجنوب على مقاومة الهيمنة. برزت خلال هذه الفترة شخصيات وزعامات محلية نظمت صفوف المقاومة وأسست لمرحلة جديدة من النضال الجماعي، وضعت الأسس لثورة أكثر تنظيمًا.

*الشرارة الكبرى: ثورة 14 أكتوبر 1963*
كانت جبال ردفان شاهدًا على انطلاق الشرارة الكبرى للثورة المسلحة ضد الاحتلال. ففي 14 أكتوبر 1963، قاد الشهيد غالب بن راجح لبوزة أولى عمليات المقاومة المنظمة. أدرك أبناء الجنوب أن العمل المسلح هو الخيار الوحيد لتحقيق الاستقلال، خاصة بعد فشل كافة المحاولات السلمية مع المستعمر البريطاني.

الثورة المسلحة لم تكن مجرد مواجهات عسكرية، بل مثلت حركة شعبية شاملة. الطلاب خرجوا في مظاهرات هزت المدن الكبرى، النساء شاركن في تقديم الدعم اللوجستي وإيواء المقاومين، والعمال أضربوا عن العمل، مما أربك الاحتلال وشل حركته الاقتصادية.

*سنوات من النضال والتضحيات الكبرى*

من جبال ردفان إلى سهول شبوة وأبين، خاض المقاومون معارك بطولية استمرت أربع سنوات قبل تحقيق الاستقلال. كانت هذه المواجهات شرسة، وأظهرت صلابة أبناء الجنوب في وجه واحدة من أقوى الإمبراطوريات في التاريخ.

الثمن كان باهظًا قُدم آلاف الشهداء وامتلأت السجون بالمعتقلين. عائلات فقدت أحبائها، لكن الأمل في الحرية جعل الشعب الجنوبي يقدم تضحياته بروح مليئة بالإيمان بقضيته. كانت أسماء مثل غالب بن راجح لبوزة، وغيرها من أبطال المقاومة، رموزًا لنضال شعب كافح من أجل استعادة كرامته وسيادته.

*لحظة الانتصار: فرحة الاستقلال*
حين ارتفع علم الجنوب لأول مرة في 30 نوفمبر 1967، كانت لحظة لا تُنسى. خرج الناس من كل بيت وشارع للاحتفال، وعمّت الفرحة كل أرجاء الجنوب، من المهرة إلى الضالع. كانت الاحتفالات تجسيدًا لانتصار الكرامة على الاستبداد، والإرادة الشعبية على آلة الاحتلال.

هذه اللحظة لم تكن مجرد فرحة عابرة، بل إعلانًا لبدء عهد جديد. لأول مرة، شعر أبناء الجنوب بأن تضحياتهم لم تذهب سدى، وأن حلم الاستقلال أصبح حقيقة.

*30 من نوفمبر: دروس مستمرة*

اليوم، وبعد مرور 57 عامًا على هذا الإنجاز التاريخي، يواجه الجنوب تحديات جديدة. الصراعات السياسية الداخلية، التدخلات الخارجية، ومحاولات زعزعة الاستقرار تمثل اختبارات جديدة لوحدة الشعب.

لكن الدرس الأكبر من الثلاثين من نوفمبر هو أن الإرادة الشعبية الموحدة هي السلاح الأقوى في مواجهة أي تهديد. تاريخ الجنوب مليء بالأمثلة على قدرة الشعب على تجاوز المحن، وهذا اليوم يذكرنا بأن الحفاظ على المكتسبات يحتاج إلى وحدة وتكاتف الجميع.

خاتمة: *عهد الحرية لا ينتهي*

الثلاثون من نوفمبر ليس مجرد ذكرى، بل هو رمز للنضال والكرامة. إنه تذكير دائم بأن الحرية والسيادة تستحقان كل تضحية. الأمانة التي حملها أجدادنا يوم حرروا هذه الأرض تنتقل إلينا اليوم لنحافظ عليها ونبني عليها مستقبلاً مشرقًا.

الجنوب، بتاريخ نضاله الطويل وشجاعة شعبه، لديه القدرة على تجاوز كل التحديات. الثلاثون من نوفمبر سيظل شاهداً على إرادة شعب لا يعرف الانكسار، ودليلاً على أن المستقبل ملك لمن يؤمن به ويعمل لأجله.