آخر تحديث :الإثنين - 21 أبريل 2025 - 11:29 ص

كتابات واقلام


قواعد اللعبة . . من ألواح حمورابي إلى ألواح الطاقة

الأربعاء - 09 أبريل 2025 - الساعة 11:02 ص

المحامي جسار فاروق مكاوي
بقلم: المحامي جسار فاروق مكاوي - ارشيف الكاتب


منذ فجر الحضارة، والبشر يسعون إلى تنظيم حياتهم بوضع القوانين والقواعد.

في بلاد الرافدين، سُطِّرت أولى تلك القواعد على ألواح طينية عُرفت لاحقًا باسم "ألواح حمورابي"، بينما نعيش اليوم تحت سلطة "ألواح الطاقة" التي تحدد إيقاع حياتنا وسرعة تقدمنا أو تأخرنا.
فكيف تغيّرت قواعد اللعبة؟ وهل نحن من يتحكم بها، أم أنها من تتحكم بنا؟

ألواح حمورابي كانت محاولة لتنظيم المجتمع، لحماية الضعيف من القوي، ولتحقيق العدالة بحسب رؤية تلك المرحلة. كانت القوانين واضحة، محفورة في الصخر، تُقرأ على العامة وتُطبَّق على الجميع (نظريًا). أما اليوم، فألواح الطاقة – من شبكات الكهرباء إلى بيانات الإنترنت – تُدار بأنظمة خفية، تتحكم بها شركات كبرى ودول عظمى، وتعيد تشكيل علاقتنا بالسلطة والعدالة والحرية.من يمتلك الطاقة يمتلك القرار. في العصر الحديث، لم تعد السلطة محصورة بيد من يملك الجيوش أو المال، بل أصبحت بيد من يتحكم بالتيار الكهربائي، بالذكاء الاصطناعي، بالخوارزميات والتحليل.ألواح الطاقة الحديثة – من الألواح الشمسية إلى مراكز البيانات ومحطات التوليد – تملي علينا نمط حياتنا، وتعيد تشكيل الاقتصاد والسياسة والتعليم والإعلام.الفرق بين قوانين الأمس واليوم أن الأولى كانت معلنة، بينما تُكتب قواعد اليوم في الخفاء، وتُمرَّر على هيئة خدمات أو تحديثات أو اتفاقيات استخدام لا نقرأها. نحن الآن خاضعون لمنظومة معقّدة من الشروط التقنية التي نجهل معظمها، لكننا نلتزم بها لأننا – ببساطة – لا نستطيع العيش خارجها.
ربما لم يتغير شيء. فالإنسان منذ الأزل يبحث عن سلطة مرجعية تضبط إيقاع حياته، لكن تلك السلطة تحولت من معبد أو ملك إلى شبكة كهرباء أو مزود خدمة إنترنت. وبالطريقة نفسها التي فرض بها حمورابي قوانينه، تفرض علينا أنظمة الطاقة الحديثة طريقتها في العيش.
قواعد اللعبة تتغير، لكن اللعبة ذاتها لا تنتهي. من لوح طيني نُقشت عليه أولى القوانين، إلى لوح شمسي يولّد الطاقة لعالم معقّد، تتجدد السلطة، ويُعاد رسم حدود الحرية والمسؤولية.
والسؤال الآن: من يضع القواعد حقًا؟ ومن يجرؤ على إعادة كتابتها؟
في الجنوب، حيث يُصارع الناس من أجل استعادة كيانهم السياسي وهويتهم التاريخية، نجد أنفسنا اليوم في صراع جديد، ليس فقط من أجل الأرض والسيادة، بل من أجل "قواعد اللعبة" ذاتها. فما زالت كثير من قوانيننا محكومة ببقايا أنظمة بائدة، من مخلفات الوحدة المفروضة، بينما واقعنا الجديد يحتاج إلى "ألواح قانونية جنوبية" تُكتب من رحم التجربة، وتُلائم طموحات الناس في عدالة وشفافية وحُكم رشيد.
كما أن البنية التحتية للطاقة – بكل رموزها الحديثة من كهرباء وإنترنت وبيانات – أصبحت أداة تحكّم جديدة. فعندما تُقطع الكهرباء عن مدينة، أو يُحرَم حيٌّ من الخدمة، لا يكون الأمر تقنيًا فقط، بل قرارًا سياسيًا يحمل دلالة السيطرة والعقاب.إن استعادة الدولة الجنوبية لا تعني فقط رفع علم أو إعلان سيادة، بل تعني إعادة صياغة "ألواح اللعبة"، تشريعًا وتنظيمًا وتنفيذًا، عبر منظومة قانونية حديثة تنبع من الإرادة الشعبية، وتضمن الشفافية والمحاسبة، وتحمي حقوق الإنسان الجنوبي دون تمييز أو استغلال.
مسؤولية إعادة كتابة "ألواح اللعبة" في الجنوب لا تقع فقط على عاتق المؤسسات السياسية، بل هي مهمة جيل كامل من الشباب، والنخب القانونية، والمثقفين، ممن يملكون الجرأة والمعرفة والرؤية.فاليوم، لا يكفي أن نطالب بالعدالة أو نحلم بالاستقلال، بل يجب أن نرسم ملامح دولة تُكتب قوانينها من جديد، تُدار طاقتها بعقل وضمير، ويُصاغ دستورها بما يليق بكرامة الإنسان الجنوبي.المعركة الحقيقية لم تعد فقط في الميدان، بل في النصوص؛ في تشريعات تُحاكي العصر وتحمي الحقوق، وتكسر منطق الهيمنة القديمة، سواء كانت على هيئة دبابة، أو على شكل زرّ تحكّم في شبكة كهرباء، أو انقطاعٍ مقصود في خدمة اتصالات.وهنا، يتوجّب على النخب القانونية أن تنتقل من موقع التفسير إلى موقع التأسيس، ومن منطق التبرير إلى منطق البناء؛ لتكون هي من ينقش على الألواح الجديدة، باسم الشعب، قواعد اللعبة العادلة.