آخر تحديث :الجمعة - 13 سبتمبر 2024 - 12:12 ص

ثقافة وأدب


شاعر وناقد أردني يكتب عن ديوان ( غداً أول العمر ) للشاعر/ رعد أمان

الجمعة - 23 أغسطس 2024 - 10:11 م بتوقيت عدن

 شاعر وناقد أردني يكتب عن ديوان ( غداً أول العمر ) للشاعر/ رعد أمان

د. راشد عيسى *

شعر ينحاز إلى الغنائية

«غداً أول العمر» مجموعة للشاعر اليمني رعد أمان الذي يتميز بإلقائه المادة الأدبية إنْ شعراً وإن نثراً بأداء شاعري عذب يمنح الحروف طاقة تعبيرية جديدة، وتطريزاً صوتياً منسجماً مع الأصوات الفطرية في الطبيعة من حفيف ورفيف وعندلة وترنيم وتنغيم. وتلك موهبة نادرة تجعل إلقاء القصيدة نصّاً موازياً يرقى ببلاغته الجمالية مرقى القصيدة نفسها. ومثل هذا الإلقاء الخلاّق يحفز دافعية السامع إلى التأمل والاستمتاع والتجاوب الوجداني ويأخذ القلب إلى أعالي السلطنة ويعيد الروح من منافيها.تضم هذه المجموعة الصادرة عن كتاب «الرافد» في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، نماذج من القصائد والمقطعات المكتوبة بشكلانيات متعددة من شعر الشطرين الغنيّ بعديد الأنماط الموسيقية. إنه شعر منحاز إلى الغنائية الشجيّة الرشيقة التي عرفناها عند علي محمود طه والشابي وإبراهيم ناجي. فهو شعر ذو نكهة رومانسية ينتصر فيها الشعور والبوح الذاتاني الموقّع بالسعادات الحزينة ولذائذ الألم، ويستند في أغلبه إلى روح الطبيعة الصافية، سواء في ما يتعالق بقلبانية الشاعر نحو مباهج الحبيبة، أو مدارج الوطن أو معارج المرادين أو مناهج المرامات الأخرى.تَصْدُر شاعرية رعد عن أصالة الصياغة الشعرية العربية الملتزمة، وعن روح عصرية تشتبك مع فضاءات التواصل الاجتماعي بذائقته الفنية الجديدة، وعن أناقة الحداثة التعبيرية في أحيان أخرى. وتنبئ المجموعة عن لغة شاعرية مبتنّاة بتراكيب ميّاسة وقواف هادئة مطمئنة لا أثر فيها للضجيج الإيقاعي، حتى لقد ظهر الشاعر مُغَنّياً أندلسياً يعزف شعره بقيثارة ملتاعة في إحدى حدائق غرناطة وهو يشرب فنجان قهوة عدنية بينما حَمَام قرطبة يتناوب الطيران فوقه. ثمة طرب شعري أصيل وصور شعرية تلاعب بك الخفة وتجعل مخيالك مشاركاً في رصد الخفيّ مما تبقى من الاستعارة أو الكناية. في هذه المجموعة تسطع البلاغة التعبيرية العربية في أجمل بيانها وأساليبها الجمالية.وأحسب باطمئنان كذلك أن شعر رعد أمان مصدر رفيع للتدريب على اكتشاف جماليات اللغة العربية وتذوّقها في هذا العصر الذي تعيش فيه العربية غربة قاسية عن ألسنة أهلها بسبب مزاحمة الإنكليزية والعامية، وانتشار اللهجات المزدوجة، وتفشي التسيب التعبيري اللغوي عبر مواقع الاتصال الإلكتروني.وفي هذه المجموعة كذلك، قصائد ومقطعات كثيرة تصلح بتميز لأن تلحن وتكون أغنيات في زمن صارت فيه أغلب الأغاني الشبابية مجرد كلمات اعتباطية فاهية باهتة حدّ السخرية المؤلمة. إن في إنتاج أغنيات من هذه المجموعة الغنائية بامتياز ما يغْني مكتبات الإذاعات العربية ويسهم في تعزيز العربية وجمالياتها. ففي القصائد تنوع عاطفي وتأملي وصوفيّ ووطني من شأنه أن يضيف الجديد للأغنية العربية التي بدأت تتهازل أمام فيض الرطانة والتلاكن الأعجمي.ثمة رسالة فنية تلقائية تقدمها المجموعة، وهي أن الشعر العربي ما زال بخير، وأنه لن يفقد أساليبه الجمالية التي تربّت عليها الذائقة العربية مهما تشاسع النص النثري المشعور تحت مسمى قصيدة النثر أو النص المفتوح، ومهما كثر الزاعمون بالشعر والمجربون له والعابثون بمبانيه وطرزه المأنوسة، وحسْب هذا الديوان احتفاله بالإيقاع الذي سما كالماء بين الشعور اللغوي والتحليق الخيالي والعاطفة الجريحة بلذتها المكمونة، فكان غناءً يشبه تغريد بلبل يتحراه الصياد والعاصفة والعطش.وعلى الرغم من هذه الشعرية الصافية والغناء الشجيّ والرشاقة اللغوية والصدق الوجداني، فإنني أتحرى أن في شاعرية صاحبنا فضاءً إبداعياً قادماً يؤهله لأن يزداد جسارة في اختراق مبنى شعر الشطرين إلى مبنى شعر التفعيلة، وفي التحليق أعلى فأعلى في آفاق الصورة الشعرية المحفوفة بالترميز والأقنعة والتجريد اللذيذ.هذه المجموعة تحمل بشريات التجاوز المأمول لأنماط الشعر السائد، وتؤسس لنقلة نوعية في تجربة الشاعر الذي يبدو لسامعه شاعراً مكتظاً بعشق العربية وبإتقان أساليبها البيانية المبدعة، تنبعث من صوته البحريّ رائحة اللغة الغنية بالعذوبة والإيناس والفطنة التعبيرية الشجاعة.

* شاعر وناقد أردني