آخر تحديث :الجمعة - 26 أبريل 2024 - 02:07 م

ثقافة وأدب


حكاية .. نادر والسيجار الكوبي !

السبت - 23 مايو 2020 - 04:43 م بتوقيت عدن

حكاية .. نادر والسيجار الكوبي !

أحمد محمود السلّامي

رن جرس الهاتف في بيته ، التقط نادر السماعة وهو ينظر إلى ساعة الحائط ، كانت قد تجاوزت العاشرة مساءاً .. الوه ، نعم أوامرك .. حالاً تكون عندك ! انتهت المكالمة .. اعاد نادر السماعة الى موضعها ، ارتدى ملابسه ونزل الى سيارته يقودها وهو يفكر كيف يلبي طلب ذلك المسؤول الكبير في تلك الساعة من الليل وهو عبارة عن سيجار كوبي (هافانا سيجار) ، خاصة وان المدينة يخيم عليها السكون وتقل فيها حركة الناس وتغلق متاجرها العتيقة قبل ذلك الوقت ، نادر كان يعمل سكرتيراً خاصاً لذلك المسؤول وكان يحب ويرتاح كثيراً عندما يلبي أوامره وطلباته بإبداع كبير، حتى يرى الابتسامة وعلامة الرضا ترتسم على محيا رئيسة المباشر ولا يطمح اكثر من ذلك ، فهو انسان يحب عمله ويخلص له كثيراً ويتعامل مع الناس بشفافية ، ولديه القدرة على نسج علاقات عامة مع كل الناس لا تخلو من النوادر الطريفة ، حتى أنه كان يُكنى بأبي النوادر .
بدأ نادر بحثه عن السيجار من متجر (ترانزيت) مطار المدينة الخامل .. دخل الى هناك بعد ان برز بطاقته الرسمية التي تصرح له الدخول الى كل الاماكن الحيوية والمهمة ، لكنه لم يجد فيه ما يطلبه ، خرج وكله أمل ان يجد حتى سيجار واحد في وجهته التالية التي كانت دكان الحاج سيف الواقع في احد احياء المدينة القريب من الميناء وكان ذلك الحي في العهد السابق سوقاً تجارياً عالمياً يبيع افخر المنتجات والماركات العالمية من ساعات سويسرية وكهربائيات وعطورات وملابس اوروبية مشهورة . دكان الحاج سيف الصغير ببابه الازرق كان يبيع بعض ادوات الصيد والسجائر الاجنبية وبعض المعلبات المحدودة التي يشتريها من عمال الميناء او بعض السياح عن طريق المانبوت ( man boat) . وصل نادر الى وجهته الثانية وتحطم أمله ! حيث وجد دكان الحاج سيف مغلق ، على الفور خطرت له فكرة جهنمية ، انطلق مسرعاً بسيارته ذات اللون المميز الذي لا تخطئه العين الى ميناء السواح وهرع إلى الضابط المناوب لشرح مهمته وطلب منه توفير لنش بحري ليقله الى السفن الراسية في الميناء لعله يجد عندهم ذلك السيجار المطلوب .. ضحك الضابط وقال لنادر : خلال خدمتي هنا عشرين سنة لم اصادف مثل هذا الموقف ابدا.
تم توفير لنش بحري صغير ليقل نادر الى تلك السفن الراسية وكانت ثلاث سفن تجارية آسيوية .. صعد إلى الاولى وسأل طاقمها هل لديهم سيجار ، ولم يجد عندهم .. وكذا نفس النتيجة في الثانية ، في السفينة الثالثة وهي اندونيسية اِنْفَرَجَتْ أَساريره ، وابتسم ابتسامة النصر العريضة بعد ان وجد لديهم مبتغاه وعرض عليهم ساعته اليابانية (السايكو) مقابل ثلاثة انابيب سيجار ، لكنهم رفضوا ان يأخذوا الساعة واعطوه سيجار سومطري جيد كهديه وهم فخورين بانها صناعة محلية تنافس السيجار الكوبي غالي الثمن .

عاد نادر الى سيارته وتوجه مسرعاً الى مقر المسؤول ووجده جالساً في الصالون المتواضع يراجع مجموعة من الاوراق والملفات وكان قد نسيّ موضوع السيجار لمعرفته ان الوقت متأخر وان السيجار لا يباع إلا في مستودعات شركة التجارة الحرة فقط التي تغلق ابوابها في الثامنة مساءاً.
قدم نادر السيجار للمسؤول ولاحظ الاخير انها تختلف عن الكوبية وقال له : من فين جبت هذه يا نادر ؟
نادر : من سفينة اندونيسية في الميناء .. استغرب المسؤول وقال وهو مندهش : اجلس احكي لي بالتفصيل . جلس نادر يقص القصة بالتفصيل الممل والمسؤول مستمر في الضحك والقهقة وفي الخير قال " يا نادر يا نادر انا قلت لك لو في معك .. ليش متعرفش معنى كلمة لو ؟ لكن شباش عليك صنعت حكاية بطولية ايها النادر، ولهذا بكرة خذ اجازة وارتاح من تعب اليوم " .
كعادته نادر لم يأخذ إجازة وحضر الى مكتبه مبكراً في اليوم التالي لمواصلة عمله .. وهكذا ظل ابو النوادر يمارس عمله إلى ان تم اقصاء المسؤول الكبير من منصبه وتم استبعاد كل الموظفين الكبار والصغار من مناصبهم دون مراعاة لخبراتهم وقدراتهم العملية المتراكمة البعيدة عن السياسة وتقلباتها القذرة .. كان نصيب نادر ان نُقِل إلى وظيفة إدارية (كاتب) ومنح إجازة اجبارية مفتوحه ، وسحبت منه السيارة بطريقة فَظَّة ومُهينه ، وخفضت علاواته وامتيازاته القانونية .. تخلوا عنه زملاءه واصدقاؤه الذين خدمهم وقدم لهم المعروف تلو الأخر .. حلت به الكارثة بسبب صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل . في البيت صمت التلفون الذي كان لا يكف عن الرنين طوال الوقت ، حتى ان نادر كلما نظر الى الجهاز الاسود الرابض في ركن الصالة كان يقول له ضاحكاً : " حتى أنت ، يا بروتس " .
نادر ابن عدن الاصيل ليس له قبيلة او قرية يلجأ إليها وقت الشدائد والمحن لطلب العون والدعم ، لكنه لم يستسلم لقساوة وضعه الجديد وتبعاته المادية والنفسية المحطِمة للهمم ، بل وقفَ شامخاً واتجه إلى الملاذ الازلي لأهل المدينة الطيبين فبعد اسبوع قضاه نادر مع اطفاله الخمسة وزوجته واهله قرر الذهاب إلى البحر ليمارس مهنة اجداده ويخرج من كنوزه الرزق الوفير ليعش رافع الرأس هو وعائلته الصغيرة مستلهماً درساً كبيراً من حياته العملية السابقة لتستفيد منه الأجيال القادمة .