اتسعت في الأونة الأخيرة ظاهرة التهجم والتندر والتشنيع والتشهير بثورة الرابع عشر من أوكتوبر 1963م المجيدة والنظام الوطني الذي أنتجته الثورة في الثلاثين من نوفمبر 1967م في محاولة لمحاكمة هذه الثورة وتلك الدولة بطريقة غير عادلة وغير منصفة بل وأجزم بالقول إنها محاكمة غير أخلاقية.
وللأسف الشديد يصر أغلب هذا البعض وربما جميعه على وضع المجلس الانتقالي الجنوبي الذي نال تفويضاً من معظم الجماهير الجنوبية، التي تضررت من إسقاط منجزات ثورة أوكتوبر ودولة نوفمبر، يصرون على وضع المجلس في موضع الخصم والمدعي والشاهد والقاضي في هذه المحاكمة غير السوية، فكلما اتخذت قيادة المجلس قراراً أو موقفاً أو خطوةً، كلما سن أصحاب الأقلام المعروضة للإيجار أقلامهم للتشنيع بثورة أوكتوبر وشهدائها وبناة دولتها مثلما فعل الكثيرون أمثالهم بعد سقوط دولة الجنوب في العام 1994م.
وقبل الخوض في التفاصيل لا بد أن أشير إلى أن حملة التشهير والتشنيع هذه قد تصاعدت في الأسابيع الأخيرة بعيد قرار الأخ اللواء عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، ونائب مجلس القيادة الرئاسي في الجمهورية اليمنية، القاضي بتشكيل لجنة تحضيرية لما سمي بــ"مجلس شيوخ الجنوب العربي"، خصوصاً بعد أن توجه بعض الكتاب والناشطين السياسيين بالتساؤل حول فحوى هذه اللجنة؟ وما ضرورتها وما وظيفتها؟ وما هو المجلس المنشود؟ وما موقعه بين المجالس الجنوبية المتعددة؟ من الجمعية الوطنية إلى مجلس المستشارين ومن مجلس العموم إلى الهيئة الحكومية؟ فضلا عن المجالس التي لا تنظوي تحت مظلة المجلس الانتقالي مثل مجلس الحراك الثوري وغيره، وماذا سيضيف هذا المجلس إلى ذلك الكوم الكبير من المجالس والهيئات؟ في ظل الحالة المعيشية والخدمية البائسة التي تعيشها عدن ومحافظات الجنوب، والتي بدأت تخلق تململاً كبيراً يتسع يوماً بعد يوم في محافظات الجنوب ويبعث الرسائل من هنا وهناك تعبيراً عن هذا التململ، . . .الرسائل التي نتمنى علي قيادة المجلس الانتقالي أن تقرأها بمهارة وتعمق ومسؤولية بعيداً عن ثقافة الشيطنة والاتهام والتخوين.
أعود للإشارة إلى أن حملة التشنيع بثورة أوكتوبر ونظامها الوطني الذي جاء على أنقاض 23 سلطنة وإمارة ومشيخة، قد تصاعدت بعد قرار تشكيل اللجنة التحضيرية للمجلس المذكور، واعتبر البعض أن تلك هي لحظة الحسم مع هذه (الثورة اللعينة) التي خرجت عن المألوف، ووحدت الجنوب في دولة واحدة، وساوت بين العبد والسيد، وبين السلطان والرعوي، وبين الفلاح ومالك الأرض وقدمت التعليم المجاني والتطبيب المجاني للفقير والغني على السواء وعلمت الناس أن هناك حرية وكرامة إنسانية وأن للناس حقوق يجب ان يتمتعوا بها، وحقق الشعب الجنوبي في ظل رايتها مكاسب لم ينل المواطن الجنوبي منها حتى ما قيمته 10% قبل ثورة أوكتوبر ودولة نوفمبر، واعتقد البعض أنه إذا كان نظام 1994م قد صفى تلك المكاسب التاريخية وأحالها إلى سجل التاريخ، فقد حانت اللحظة الحاسمة لمحاكمة أولائك (المارقين الأشرار) الذين زرعوا (شر العدالة الاجتماعية ورجس المواطنة المتساوية) الغريبين على أرض الجنوب.
وبالعودة إلى موضوع لجنة مجلس الشيوخ و(الجنوب العربي) وحينما تواصل معي مندوبو بعض المواقع الإلكترونية والصحفية طالبين رأيي في قرار الأخ اللواء عيدروس الزبيدي، قلت لهم إنني أتمسك بالمثل الشعبي الذي كانت أمي العزيزة عليها رحمة الله تقوله لي: "أول يلد وانسمي" والذي يعني أن الحديث عن المولود لا يمكن أن يكون قبل قدومه إلى الوجود، فليس من الحكمة أن نتنازع على مسمى ما يزال في علم الغيب، وكل معرفتنا به هو أن له لجنة تحضيرية، واكتفيت بالرسالة التي بعثتها إلى الأخ اللواء الزبيدي، والتي تناقلتها بعض وسائل التواصل الاجتماعي بما فيها من تساؤلاتي واستفساراتي.
وأشير أيضاً إلى أنني شخصياً كنت من بين الكثيرين الداعين إلى مصالحة وطنية شاملة تشمل التاريخ الجنوبي الحديث منذ ما قبل الاستقلال،حتى يوم الناس هذا، بما في ذلك ضحايا الصراعات السياسية الجنوبية، وبعد كل هؤلاء ضحايا حرب العدوان في 1994م الذين ما يزال الآلاف منهم أحياء وينتظرون استعادة حقوقهم القانونية من الوظيفة إلى المنزل إلى حق الترقية إلى المعاش التقاعدي، ناهيك عن شهداء وجرحى ثورة الحراك السلمي الجنوبي والمقاومة الجنوبية المسلحة، والذين ما تزال أسر البعض منهم بدون عائل وبدون مصدر دخل والكثير منها تعيش على صدقات المتصدقين وما تقدمه الجمعيات الخيرية لهم مما يسد وأحيانا لا يسد الرمق، وهم الذين لم يبخلوا بأرواحهم ودمائهم من أجل تربة هذا الوطن الذي يسير في المتاهات الشائكة، فضلا عن الجرحى والمعوقين الذين يعيش بعضهم محنة الإعاقة المزمنة دون أن يحصلوا على ثمن العقاقير المسكنة للآلام (إلا إذا كان هؤلاء رخيصين إلى درجة أنهم لا يستحقون الالتفات لمعاناتهم).
ويجب أن تشمل عملية المصالحة هذه رد الاعتبار وجبر الضرر والتعويض المادي والمعنوي عما لحق بهؤلاء من أضرار مادية ومعنوية وفي هذا الإطار يمكن أن تأتي المصالحة مع المتضررين من أخطاء الستينات والسبعينات بما في ذلك الأسر السلاطينية والمشائخ والوجهاء الاجتماعيين ورجال المال والأعمال والطبقة الثقافية والإدارية العدنية التي تعرضت للإقصاء والتهميش قبل وبعد حرب 1994م، بعيداً عن الانتقاء والتمييز والسياسات التي تتضمن من التحريض والتشهير ونكء الجراح أكثر مما تعالج من الآلام وتداوي من الأوجاع.
وبكلمات أخرى إن المصالحة الوطنية ورد الأعتبار يجب أن تكون عملية سياسية شاملة تستهدف كل من أُلحِق به الضرر المادي والجسدي والمعنوي، وفي كل المراحل وأن لا تقتصر على شريحة اجتماعية دون سواها، وهذا ما أقدمت عليه الكثير من البلدان في إطار ما سمي بإجراءات وتشريعات "العدالة الانتقالية"، وهذا بالتأكيد لا يمكن أن يتم إلا من قبل سلطة تمتلك الأهلية والمشروعية الدستورية والقانونية، وفي إطار ترتيب الأولويات المنتصبة أمام الثورة الجنوبية وأداتها السياسية وعدم الخلط بين الأولويات وتقديم مهمات ما بعد التحرر على مهمات مرحلة التحرر الوطني واستعادة الدولة، وهي المهمات التي لن يتنازل عنها الشعب الجنوبي حتى لو تناساها السياسيون أو عزموا على ترحيلها إلى أجل غير مسمى كما قال أحد القادة السياسيين.
ونصيحتي لمحترفي الكتابة من الزملاء قادة المجلس الانتقالي الجنوبي أن يتواضعوا قليلا وهم يقيمون ثورة بحجم ثورة ١٤ اوكتوبر ودولة بحجم دولة الثلاثين من نوفمبر وأن يصنعوا 10% مما صنعته ثورة اوكتوبر من المنجزات وبعدها يمكن أن بتحدثوة عن تاريخ هذه الثورة، وأن يتذكروا أن مهمتهم هي تخفيف آلام الناس واحترام كرامتهم وتطبيب جراحه وإعادة حقوقهم، وليس فقط التشهير بالتاريخ ولعن الآخرين بالحق والباطل.
وأخيراً:
للذين يرتعدون كلما ذُكِرَت ثورة الرابع عشر من أوكتوبر ودولة اليمن الديمقراطية الشعبية نقول: نعم إن هذه التجربة وفي خضم معارك النضال والبناء مرت بأخطاء وشطحات بعضها مؤلم وضار، أخطاء لم تأتِ من فراغ بل إن لها خلفياتها وحيثياتها وأسبابها الموضوعية والذاتية، . . . ونعم لا بد من التقييم العادل والمنصف لهذه التجربة ، لكن هذا التقييم لن يتولاه إلَّا فريق من المتخصصين القانونيين والمؤرخين والقضاة والدبلوماسيين والخبراء في الدستور والقانون الدولي والعلاقات الدولية المحايدين والموضوعيين، ولا يمكن أن يقوم بهذه المهمة المتنطعون وحديثو العهد بالسياسة وبالكتابة والتاريخ والثقافة القانونية والدستورية أو أولائك الصبية الذين رمى بعضهم قارورة الرضاعة واستلم جهاز اللابتوب أو الهاتف الذكي ثم اعتبر نفسه خبيراً في تقييم تاريخ يمتد إلى أكثر من قرن من المقاومة والنضال السلمي والتمردات القبلية وثورة الكفاح المسلح وبناء الدولة الوطنية بما فيها من التضحيات بقوافل الشهداء والجرحى، بينما ما يزال هذا البعض بحاجة إلى تعلم مبادئ القراءة والكتابة وآداب التخاطب مع الوالدين وإتيكيت تبادل التحيات والمشاعر مع الآخرين.
والله من وراء القصد.