آخر تحديث :الخميس - 26 ديسمبر 2024 - 03:13 م

ثقافة وأدب


إذاعة سيئون .. سر حبي ..!

الأحد - 07 يناير 2024 - 06:25 م بتوقيت عدن

إذاعة سيئون .. سر حبي ..!

محمد العولقي

رغم أن بثها الأثيري لا يتعدى حدود محافظتي (حضرموت) و (شبوة) ، إلا أنها تبقى وحيا إبداعيا منزلا علينا في صورة (إلهام) يحفظ للعمل الإعلامي المسموع بعضا من كرامة تباع هذه الأيام على الرصيف ..!
* و شهادتي في إذاعة (سيئون) ليست مجروحة لحقيقتين :
الأولى : أن الإذاعة التي يتحرك طاقمها في علبة كبريت كخلية نحل و طوال يوبيل ذهبي، تقدم لنا يوميا وجبات طازجة مليئة ببهارات التجديد ، وتوابل البرامج التي ترتبط بمعاناة الناس في الوادي ..!
* والثانية التي عادها لما تكون على حد تعبير (الهاشمي) الذي قال : عندك خطأ ما قرأت البسملة ، فتكمن في استهزاء أسرة الإذاعة بالظروف المحبطة التي تحيط بمواردها الشحيحة إحاطة (الروس) بالعاصمة الأوكرانية(كييف)..!
* ورغم أن إذاعة (سيئون) بعمرها المديد الذي يوازي عمري بالطول والعرض والارتفاع ، تنحت في جبال الوادي في صمت بعيدا عن الشكوى لغير الله ، إلا أن فرسانها يتربعون على قلوبنا ، وأصواتهم المغردة تستوطن أذن كل مستمع مغرم صبابة بما يقدمونه من برامج هادفة تحترم ذوق الأذن التي تعشق قبل العين أحيانا ..!
* يحترق طاقم الإذاعة بصمت في سبيل تكريس مفاهيم احترام الوعي الحضرمي ، والتقيد بمبادئ العمل كخدمة للناس ، وهي خدمة فوق كل الاعتبارات ، وليست سلعة تطارد إعلانات الشحت و التسول ..!
* كل مطبخ حضرمي يضبط التوقيت المحلي على مؤشر إذاعة (سيئون) ، فتخرج الوجبات من (الفرن) ساخنة مشبعة بتوابل التشويق وبهارات الذوق الرفيع.
* كل ربة بيت في (حضرموت) الوادي لا يعتدل مزاجها ، ولا تنفتح نفسها لواجبات المطبخ إلا على صوت إذاعة ( سيئون) ، وفي اليوم الذي تكون فيه وجبة الغداء (بايتة) بلا رائحة ولا نكهة و لا طعم ، يكون هذا دليل دامغ على خلل فني طارئ أصاب إذاعة (سيئون).
* وقبل أن يتبرم رب الدار على طريقة (أحمد شوقي) الذي تبرم من ( بيرم التونسي) خوفا على العربية ، وقبل حتى أن يقطب (الزوج) حاجبيه كاشارة عدم رضا من الوجبة ، تسارع ربة الأسرة الى التبرير الذي يقطع قول كل خطيب : ماذا أعمل ؟! إذاعة (سيئون) لا تعمل هذا النهار.
و في تبرير ربات البيوت أكبر شهادة نجاح للإذاعة الصامدة العريقة التي تدخل مرحلة ما بعد اليوبيل الذهبي دون أن تفقد جمالها ورونقها وقدرتها الفائقة والساحرة على جذب الكثير من العشاق.
* وبعيدا عن المجاملات، يستطيع الكادر المتواضع رقما في إذاعة ( سيئون) أن يرفع رأسه وهو يمشي الهوينا على طريقة الملك الواثق الخطوة ، فشعبية مذيع في إذاعة سيئون تفوق كما و كيفا شعبية وزير يلعب بلسانه، أو لاعب يعزف بقدمه.
* و يستطيع الكادر (السيئوني) أن يفخر بما أنجزه من ثقافة أخلاقية تنعكس في الشارع ، في المدرسة ، في البيوت ، في المقاهي والأسواق ، وفي الملاعب الرياضية و الأندية الأهلية والشعبية ، هذا لأن إذاعة (سيئون) تخاطب العقول أولا ، بلغة سهلة سلسة ببرامج متنوعة يكون المستمع فيها هو القاسم المشترك الأكبر ، كما أن شفافية طرح قضايا مجتمع مدني محافظ كالمجتمع الحضرمي تتطلب رزانة و وقارا يصبان في بحر أدوات معالجة القضايا دون تزييف للحقائق ، وهذه المصداقية في الطرح لا تتوقف عند حد جرأة معد أو مقدم خرج عن النص ، لكن منسوبها يصل إلى ضفة نهر التعاطي مع القضايا بروح المواطن وعقل المستمع.
* مرة زرت إذاعة سيئون بدعوة كريمة من الزملاء والأصدقاء في الوادي ، يومها انطلقت مني جملة تعجب على طريقة عميد المسرح العربي (يوسف وهبي) يا للهووول..!
* كان اندهاشي الصاعق قد تحول على لساني إلى سؤال وجهته للزميل العزيز المبدع نطقا وكتابة سليمان مطران:
معقول يا (سليمان) كل هذه الروائع والوجبات الطازجة الشهية تخرج من غرفة بحجم علبة الكبريت ..؟!
* لم يعلق (سليمان) ولا حتى مدير الإذاعة عملا بمبدأ لا يمشي على قدمين الا في جنوبنا الحبيب : المعاناة تولد الابداع.
* و يا له من إبداع حضرمي يتجاوز الظواهر المدهشة بمراحل ، حسنا خذوا هذه البديهيات والمعطيات القاصمة للظهر والجيب معا :
- متعاقدون بلا مرتبات من زمن لا يتذكره أسبقهم للعمل الإذاعي.
- متطوعون يدفعون من جيوبهم كي تبقى إذاعة (سيئون) صوت لا يعلو عليه صوت آخر.
- مهندس صوت تفرغ كليا لحل العقد و المشاكل الهندسية ، يقوم مع صياح ديك شهريار ، ويعود بأنامل تبحث عن ضمادات.
- بدائية المعدات وتهالك آلات وأدوات العمل ، فهي تنتمي إلى ماركة السبعينيات وقد أكل عليها الدهر وشرب ومات من ( الخضة).
- إسعافات (صنعاء) زمان كانت مجرد (منشطات) و (حقن) مهدئة لم تنطل على فرسان إذاعة (سيئون)، وهم يرمونها في قمامة السخرية ، حفاظا على سلامة أذن المستمع ، وعين من يشاهد الإبداع يطير ويحلق فوق القمة الحضرمية العالية حيث وكر النسر.
- محدودية البث وحرص حكومة (الوحدة) الظالمة على منع وصول الصوت الحضرمي إلى المحافظات المجاورة ، حتى لا تتفشى ثقافة الأخلاق الحضرمية وتنتقل عدواها إلى فاسدين يأكلون مال النبي دون أن يخفض لهم طرف.
أليست هذه مثبطات تهد الجبال ؟!
* إذاعة (سيئون) شكلت وعيا بدون مقومات حقيقية ، تصر على التحدي في زمن مؤامرات تستهدف طمسها ، أو على الأقل تهميشها و إضعاف صوت الحق الذي ينطلق عبر الأثير مناديا أبناء الوادي (حي على الفلاح .. حي على الفلاح ..) ، ورغم مساحتها المحدودة تأبى اذاعة (سيئون) إلا أن تتجاوز خرم الإبرة وعلبة الكبريت نحو آفاق من صنع فرسان يدخلون مسامات الجسد عبر الأذن ، هي دائما في صف المواطن تفتش عن همومه وتطرح الحلول و لا تجعله معلقا في الهواء ، وهي في صف المثقف، تفتح منتديات فكرية و صوالين أدبية بحس من يتعاطى مفردة الأدب على أنها همس قوافي تتشكل في صورة إبداع ليس له نهاية ، وهي في صف الشباب و الرياضيين، تجدها داخل الأندية تذكي نار التنافس الشريف ، وتجدها حاضرة لنقل المباريات من سمائها لمائها وبمعلقين يحترمون اللغة بعيدا عن تقليد ما هو مقلد ، هي في حضرة قضايا المرأة الحضرمية واعظة ، وناصحة ، دون الخروج عن المألوف وحوائج الملفوف.
* هذه إذاعة (سيئون) التي احتفلت بيوبيلها الذهبي بعيدا عن الضجيج والمزايدات السياسية ، اللافت للنظر والجاعث للأنف أن وزير الإعلام في حكومة (الشرعية) لم يكلف نفسه عناء إرسال برقية تهنئة ، وهذا دليل آخر يؤكد أن أدوات (الوحدة) قديمها وحديثها تلعب بنفس الطريقة ، طريقة خنق صوت الإبداع المحلق فوق الوادي.
* يا فرسان إذاعة (سيئون) من متعاقدين و متطوعين، دعوكم من الواشي الكذاب ، ومن تداعيات ( المهراجا) الوزير ، أنتم تعانون لأجلنا ، تقتاتون من المرارة لأجلنا ، تبيعون لنا سهركم وتعبكم بالتقسيط المريح كي تبقوا في وعينا وميض مطر لبرق حن رعده من قمم الجبال ، تنتجون لنا قمحا مختلف ألوانه ، تشبعون جوعنا بمائدة (سيئونية) صوتية منزلة من السماء، كحال المن والسلوى ، تشكلون محيطا مدنيا حضاريا خاليا من ضغينة خرقاء ، و غيرة عمياء ، تزرعون في قلوبنا القاحلة ورودا وزهورا وجنة إبداع قطوفها دانية، تجذب السنونو الحضرمي كي يعود بكل الربيع.
* أظن بعد ما تقدم وما تأخر ، أنكم كشفتم السر الذي لم يعد غامضا أبدا ، سر حبي لإذاعة (سيئون) كاملة الأوصاف ، تلك الفاتنة السمراء كحبة تفاح تتلألأ على ضفاف ليالي الوادي ، فلكم مني تريليون قبلة وأنتم تطفئون شمعة يوبيلكم الذهبي ، وكل عام وأنتم كل الحب يا فرسان كل المحن.