آخر تحديث :الثلاثاء - 24 ديسمبر 2024 - 09:39 م

كتابات واقلام


من واقع ذكرياتي الحلقة الأولى

الأحد - 03 نوفمبر 2024 - الساعة 07:48 م

حسين أحمد الكلدي
بقلم: حسين أحمد الكلدي - ارشيف الكاتب


كل منا يمر في طريقه بمحطات عديدة في الحياة، ويبقى شلال الذكريات متدفقًا وجارفًا من العمق، في نقطة ما من الذاكرة لم تزحزحه الأحداث بمرور الزمن. في تلك المحطات التي مررنا بها، سجلت الذكريات أحداثها، وهذه هي سنة الحياة. أنا من الناس الذين كان لهم نصيب من تلك الذكريات، ففي العام 1968 م كان ذلك العام الأكثر إثارة وألمًا بعد رحيل والدي. أتت مناسبة العيد الكبير، أو عيد الحج، التي كانت نقطة تحول فاصلة لتلك الأحداث التي مررنا بها، وذكرى لمرارة الإحساس المؤلم عند غياب والدي. في تلك الفترة كان الشعور مختلفًا عندما ذهبنا بصحبة والدتي، رحمها الله، إلى أحد الدكاكين الصغيرة المنتشرة في قريتنا، لشراء مستلزمات العيد، ومنها الملابس. عند اختيار كل منا ما يناسبه، كانت والدتي هي من يوجه الاختيار بما يتناسب مع إمكانياتها. لكن اختياري كان مُربكًا بالنسبة لإمكانياتها؛ فقد اخترت قميصًا أبيض إنجليزيًا يتميز بوجود أزرار أكمام (كبكات) وربطة عنق صغيرة (فيونكة) على الرقبة وبأكمام طويلة. عند جمع المبلغ، كان صاحب الدكان يعلم بصعوبة الاختيار ويحاول إقناعي بالعدول عن هذا القميص لأنه كان يعلم إمكانيات والدتي، فسعر القميص العادي حوالي شلن واحد، أو ربما يزيد قليلاً إلى 1.5 شلن، بينما القميص الذي اخترته كان سعره خمسة شلنات، وهو مبلغ كبير جدًا في ذلك الوقت، خاصة على ميزانية أسرة تعاني من صعوبات مالية كبيرة. حاول صاحب الدكان إثنائي عن هذا الاختيار بأي شكل، مشفقًا على والدتي، لكنني تمسكت بخياري.
كان صاحب الدكان كريمًا جدًا؛ فقد تنازل عن جزء من مكسبه وسمح لنا بتسديد المبلغ على دفعات لتخفيف العبء الثقيل الذي سببه اختياري على والدتي. بالرغم من مرور 58 عامًا على تلك الأحداث، إلا أنها ما زالت حاضرة في ذاكرتي على مر الزمن، وفي كل مراحل حياتي الرائعة التي مررت بها. ما زلت أتذكر كيف كانت والدتي تقبل اختياراتي وتحاول تلبية احتياجاتي على قدر ما تستطيع. لم تكن متعلمة ولم تكن تملك أفكارًا عصرية حول التربية كما نعرفها اليوم، لكنها كانت تتعامل معنا بروح الأمومة الصادقة، وهذا ما ترك أثرًا عميقًا في نفوسنا طيلة حياتها. أود هنا أن أنقل للآباء والأمهات والمعلمين فكرة مهمة؛ وهي أن يجعلوا كل تصرف مع الأبناء يحمل معنى للمسؤولية الكبيرة التي يحملونها على عواتقهم. رغم أن الزمن قد تغير وأن الأبناء اليوم يحصلون على مميزات كثيرة لم نحصل عليها في طفولتنا، سواء من حيث الرعاية أو الاهتمام، فإن التعامل مع الأطفال والشباب يجب أن يتم بحذر وحرص، لأن أي تعامل، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا، قد يرافقهم مدى العمر. أدعو الآباء وكل من يتعامل مع الأطفال إلى الحرص على طريقة التعامل والحفاظ عليهم مهما كانت الظروف. الأبناء لا ينظرون إلى ظروفك الخاصة، بل ينظرون لما يحتاجونه منك فقط. وفي المقابل، أذكّر الأبناء بضرورة مراعاة حقوق الآباء والأمهات عند بلوغهم سن المسؤولية بعد انتهاء الدراسة. فلا يحق لكم أن تطالبوا بكل شيء من رعاية واهتمام، وأن تزيدوا العبء عليهم بما لا يطيقون. تذكروا أن الحياة التي قضاها الوالدان في خدمتكم طيلة ثلاثين أو أربعين عامًا كانت شاقة وصعبة جدًا لتأمين متطلباتكم في ظل ظروف قاسية، فاحرصوا على احترامهم وتقديرهم. إذا ذهبوا، فلن يعودوا مهما ندمتم أو حسرتكم عليهم بعد رحيلهم، ولن يفيدهم أو يفيدكم الندم بعد فوات الأوان.

3/11/2024