آخر تحديث :السبت - 07 سبتمبر 2024 - 10:20 م

كتابات واقلام


الخبز في يافع

الخميس - 25 يوليه 2024 - الساعة 03:33 م

د.عارف الكلدي
بقلم: د.عارف الكلدي - ارشيف الكاتب


قبل ثورة أكتوبر كان خبز الناس في يافع من إنتاج البلد، من الذرة أو الدُّخن، ونادرا ما يكون من القمح، ولم يكن أحدٌ يأكل البُرَّ إلا نادرا، وفي بداية انتشار القمح المستورد بعد الثورة قال الشاعر مستغربا من الرفاهية:
وتعشوا البِرّ وتغدوه وتصبحوه!!!

لأهمية الخبز كانوا يطلقون عليه اسم الذَّهَب، فقد كان عُملة للبيع والشراء، ومن يقرأ الأسجال القديمة يجد ثمن المشتريات كذا كذا كيلة ذهب، أي كذا كذا كيلة من الدُّخن أو الذرة.

كان ربُّ الأسرة بعد موسم الخير، وهو موسم الحصاد، يقسِّم الحَب الذي تحصّل عليه على عدد أيام السنة بما يكفي أفراد أسرته، والسعيد هو الذي يكون عنده فائض، فإن هذا يعني أنه سيشتري به مزيدا من الطين، فقد كان الناس يبيعون أرضهم ويرهنونها مقابل الحَب حينما يشتد بهم الجوع.

لقد كان الخبز أغلى من العسل، فقد كان البدو الذين يعيشون على الماشية يأتون من أطراف يافع في أيام الشدة التي تكون قبل موسم الحصاد، ومعهم العسل في المناشع (المنشع وعاء يصنع من ثمر القرع الطويل ويقال له في بعض المناطق "جحف" أو "مخضب") يعرضون العسل بما يقابله من الحَب، أي يصبون له العسل من المنشع وبمقابله يأخذون من الدُّخن أو الذرة بنفس المقدار، ونادرا ما يجدون من يبادلهم، فلا يتخلى عن الخبز إلا من عنده فائض، وقليل ما هم، فإذا وجدوه انصرفوا من عنده وهم شاكرون له معروفه.

كان رب الأسرة بعد تقديره للمحصول السنوي، يقدِّر كمية الحب لليوم الواحد بعملية صارمة، لا هوادة فيها، فيُخرجها لنساء البيت في الصباح الباكر ليطحنَّها بالرحى، ويتولى أيضا إخراج الملح، فإذا وضع الملح بقبضته أخرج من مخصص اليوم ما يعادله من الحب ليوفر قيمة الملح وأشياء أخرى يضيفونها إلى الوجبات مثل السليط الحالي.

وإذا كان المحصول الذي يتحصل عليه في موسم الخير لا يكفي لكل أيام السنة فإنه يضطر لخلط بعض الوجبات بالتِّبن وقشور الدِّجر، وكانوا يسمون الخبز المخلوط بالتبن بالمُحمَّط، والمخلوط بقشور الدِّجر بالمُدجَّر، وهذه كانت منتشرة في وجبات الناس، فإذا استطاع أفراد الأسرة أن يأكلوا الخبز النظيف على مدى السنة عُدّوا من الرعويين الأغنياء.

وكانوا يطبخون الخبز بثلاث صور:

- العصيد: وهو خبز مخلوط بالحقين، ويكون وجبة العشاء في الغالب، وقد يكون وجبة الغداء وخاصة في المناسبات، ويكون إدامُه من السمن والصَّعَة، وهي عصيد رقيق لكثرة مائه ولبنه مقابل طحينه، وقد كان للبقرة أهميتها القصوى، بحيث أنهم كانوا يطلقون على من افتقد بقرته اسم المُجعز، ويرونه أهلا للرثاء فيتصدقون عليه بالسمن واللبن.

- اللحوح: ويكون إدامه من سليط السمسم، وهذا هو الرفاهية الكبرى المفعمة بالمشاعر والرومانسية، وفيها قال الشاعر:
قال بدّاع من حَبّ المرة... حبته واتسوي له لحوح.

- الخبز المطروق على حجر رقيقة يقال لها (الصلأة) توضع على أثافي الصُّعد، وهذا النوع ناشف لا إدام له إلا القهوة، وهو الخبز اليومي الشائع، وقد كان ثلاثة أحجام:

- القُرص: وهو أكبرها، ويُطبخ على نار هادئة، ويُغطى بإناء ثم يُدفن بالرماد، وغالبا ما تصنعه المرأة في أيام الحَطَب التي تصادف الليالي البيض من كل شهر، فقد كن النساء يبكِّرن منتصف الليل على ضوء القمر إلى الجبال البعيدة غير المزروعة ليجلبن الحطب، لأن الحطب لم يكن متوفرا في المدرجات الزراعية والسِّيَل القريبة من الجِرَب في الوديان، فقد كانوا يمنعون الأشجار من منافسة الدُّخن والذرة على تراب الطين، وكانوا يسمون تلك الأشجار نوازع، ويتحسس الواحد من جاره في الطين إذا ترك نازعة حتى لو كانت في مكان بعيد، ويشارع فيها بصلابة.

- البُقْسة: وهي الخبز السائر الشائع، وهو أقل حجما من القُرص إذ إن الطحين المخصص لقرص واحد يعادل ثلاث أو أربع بُقس.

- الدُّعنون: وهو أصغرها حجما، وغالبا ما يُصنع للأطفال، أو في وجبات الفأل بداية اليوم.

ولأهمية البُقسة فإن لأجزائها عندهم أسماء، لأنها كثيرا ما تُقسم بين اثنين أو ثلاثة أو أربعة، ولا سيما في وجبة الفأل (الصبوح) فنادرا ما يتحصل الفرد على بُقسة كاملة في هذه الوجبة.
فإذا قسموها نصفين صار النصف يُسمّى (حال) فإذا قسموا الحال نصفين كان القسم منه يسمى (تربيعة) فإذا أخذوا من التربيعة جزءً أطلقوا عليه (شِدْفة)
والشدفة هذه تتقسم إلى أجزاء يقال لها (فحاتيت) والفحتوت كان له أهميته، ولا تجد من يتخلى عنه.

كانت الظروف صعبة قاسية، ولكنهم كانوا أشداء على قدرها، ويكفيهم شرفا أنهم كانوا يعتمدون على منتوج بلادهم، وكانت عندهم أَنَفة من الانكسار، فقد حدثني بعض كبار السن أن الواحد منهم كان يُدهن يديه بالسمن إذا ذهب إلى مجلس سَمَر، وبطنه خاوية، فقط ليوهم الآخرين برائحة السمن أنه شبعان من العصيد، فإذا عاد ربط على بطنه حجرا ليُسكت الجوع.
إن هذه الظروف القاسية هي التي أخرجت رجال المال والأعمال اليافعيين المنتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، وجعلت اليافعي واليافعية ذوي شكيمة وصلابة وإرادة...فهل تعي الأجيال الجديدة معنى ولادة النجاح من الظروف الصعبة؟!
✍️: د. عارف عبد